نتائج الاستشارة الوطنية قد أكدت أن الرئيس لا يحتاج في فرض سلطته "التأسيسية" إلى تمثيلية شعبية كبيرة، ولا إلى الاستعانة بالمؤسسة الأمنية أو حتى بالتضييق النسقي على الحريات، بل كل ما يحتاجه هو استمرار موازين القوى بينه وبين خصومه على وضعها الحالي
المستقبل السياسي للرئيس ومشروعه سيكون مشروطا بموقف الاتحاد من إملاءات الجهات المانحة، ولكننا قد لا نبالغ أيضا إذا ما قلنا بأن مستقبل الاتحاد ذاته سيكون مرتبطا بطبيعة علاقته برئيس الجمهورية خلال المرحلة القادمة
الرئيس لا يعتبر الاستشارة (أو الحوار الوطني العمودي) إلا شكلا من أشكال الاستئناس بالإرادة الشعبية؛ التي سبق لها أن فوضته تفويضا مطلقا ونهائيا وغير قابل لـ"سحب الوكالة" منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي. وهو ما يعني أن الرئيس لن يعتبر فشل الاستشارة أو فشل الاستفتاء طعنا في شرعيته
يبدو أن فشل الاستشارة الالكترونية التي أراد الرئيس قيس سعيد أن يُشرعن بها الاستفتاء وما يقوم عليه من احتكار "السلطة التأسيسية"، لن يمنعه من مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام
بصرف النظر عن منطق "المؤامرة" الذي يرى في الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي صنيعة محور الثورات المضادة وبعض مكونات المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي داخل أجهزة الدولة والمجتمع المدني والنقابات، أظهر الرئيس التونسي قدرة كبيرة على توظيف تناقضات المشهد السياسي وآفاته الأيديولوجية وصراعاته
بالإضافة إلى تحكّمه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وسعيه للتحكم في السلطة القضائية، يتحكم الرئيس عبر منطق "التعليمات" في السلطة الرابعة، ويتحكم أيضا في السلطة الدينية. كما يستمد قوته من "واقع متناقض" هو التقاؤه الموضوعي مع أغلب الأجسام الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية
أثبت الرئيس أنه أبعد ما يكون عن مشروع "الكتلة التاريخية" ومنطقها المتجاوز للصراع الأيديولوجي، كما أثبت أنه مجرد لحظة جديدة في الصراع السياسي على أساس الهوية والاصطفافات الإقليمية، وهو واقع قد يدفعه إلى استثمار يوم 6 شباط/ فبراير لمحاولة الخروج من عزلته السياسية واستثمار ملف الاغتيال السياسي
استقالة السيدة عكاشة تعكس بلوغ منطق "الحوار الداخلي" وما ينبني عليه من التغاضى عن الهوة بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع؛ مرحلةَ الأزمة أو التصدع في مجال تداوله الأول
الانقسام المجتمعي الذي تعبر عنه الخطابات السياسية وخطوط التحرير الإعلامية والانحيازات النقابية والمدنية؛ عرف تغيرا بعد "الانقلاب" من جهة تموقع الأطراف المشكلة له، كما عرف تغيرا من جهة كونه أصبح يتغذي ويتعمق بخطابات الرئيس ذاته، بعد أن تحوّلت إلى "سياسة دولة" بإشراف بوليسي صريح وتحريض إعلامي ممنهج
مواجهة الانقلاب ستكون بلا أي أفق استراتيجي - حتى لو سقط الرئيس ومشروعه - ما لم يشتغل الديمقراطيون الحقيقيون على فهم أسباب فشل الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، وبالتبعية في المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وما لم يحددوا بكل وضوح وبلا مجاملة مسؤولية مختلف الفرقاء في ذلك
الخلاف الأصلي هو في أن العميد يريد "جمهورية ثالثة" تضمن للنخبة الحداثية أدوارها ومكاسبها وتضمن لأجسامها الوسيطة دورا في السلطة، أما الرئيس فإنه يريد "تشريعا" (أي دستورا ومنظومة سياسية) يكون هو المتحكم فيها عبر نظام رئاسوي وبرلمان تابع ونخب بديلة تهدد دور النخب التقليدية وامتيازاتها
ليس جوهر الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تونس - ودور فرنسا المعلوم في تأزيم مسار الانتقال الديمقراطي - إلا تعبيرا عن ارتهان المشهد التونسي للائكية الفرنسية وما يحكمها من ترابط عضوي بين الثقافي والاقتصادي
المخرج من الأزمة السياسية الحالية - مهما كان شكل الخارطة السياسية الذي سيفرزها - لن يكون واقعيا إلا مدخلا لأزمات جديدة ما دامت "الكتلة التاريخية" أو "الخيار الثالث" مجرد مطلب طوباوي لا وزن له ولا تأثير على مجريات الأحداث، ولا يُتوقع أن يكون له دور وازن في إعادة هندسة الحقل السياسي
إذا كنا لا نشك في صحة القاعدة التي تقول بأن من يحدد الإطار يتحكم في النتائج، فإننا لا نشك أيضا في أن الإطار الذي فرضه الرئيس على كل الفاعلين الجماعيين - وما أوجده من "فرز تاريخي" - قد يجعلهم يبحثون عن إطار مختلف لتجاوز الأزمة الحالية
ليس الغموض المقصود - في خطاب القوى الانقلابية - هو فقط غموض وضع الديمقراطية التمثيلية، ولا غموض الوضع الاقتصادي وواقع الحريات الفردية والجماعية، بل هو أساسا غموض وضع تلك القوى في مشروع الرئيس الذي ما زال مصرا على إقصائها من إدارة حالة الاستثناء وتحديد مخرجاتها، وغموض مستقبل "العدو المشترك" أي النهضة