كتاب عربي 21

"الجزار" أبو الفتوح

شريف أيمن
1300x600
1300x600
قبيل انتخابات 2014، جلس ضئيل الحجم هذا مع مُحاوره، واسترجع لحظات قلقه منذ سنتين سبقتا جلسته تلك، وتساءل: "واحد زي عبد المنعم أبو الفتوح لو كان نجح كان هيعمل معنا إيه؟"، فأجاب المحاور بتلقائية: "عبد المنعم؟ عبد المنعم هيعلقنا زي الذبيحة، دا إخوان" فردّ صاحب "الأحلام" مؤكدا: "انت هتقول لي؟ دا إخواني متطرف".

خلاصة هذا النقاش السريع أن ضئيل الحجم هذا يعرف أبو الفتوح جيدا، فهو لن يرتهن في قراره للزمرة التي كانت تملك زمام الدولة، وتريد الاستئثار بها دائما. لذا، استراح من عدم وصول الرجل لذلك الكرسي الذي رآه في أحلامه، إلا أن راحته منغّصة - كما يبدو - إذ لا زال شبح ذكرى هذه الأيام يؤرقه ليذكره دون مناسبة تستدعيها.

الأنظمة المصرية المتلاحقة تعرف أبو الفتوح جيدا، تعرفه منذ عودته من أوروبا في 1981 رغم علمه بأنه سيتم اعتقاله، وتوثقت معرفتها به عام 1995، فأصدرت ضده حكما بخمس سنوات، وأعادت اعتقاله في 2009. لكن المعرفة الوثيقة للسلطة الحالية بالرجل كانت عقب ثورة يناير، عندما وقف أمام الكتل التنظيمية بالمجتمع والدولة، دون نفس أدوات الحشد أو البطش أو المال، وحصل حينها على أكثر من أربعة ملايين صوت، رغم رسالة التهديد (الاعتداء عليه وسرقة سيارته)، ورغم التشويه الذي كان يجري ضده من "إخوانه" الذين صحبهم لعقود، وفارقهم منذ تسع سنوات تقريبا، فكانت النتيجة مؤشرا واضحا على ما يمكن للرجل أن يصنعه بين الكتل التنظيمية الكبرى لو تكررت التجربة وفُتح له المجال ليتكلم مع الشارع.

عرفت الأنظمة المتلاحقة جرأته في النقد، وتجاوزه للخطوط الحمراء، ولما قاموا باعتقاله منذ شهر تقريبا؛ قرروا التنكيل به كغيره من السياسيين المعتقلين منذ منتصف 2013، فمنعوا عنه الملبس والطعام الشخصييْن، ورفضوا استلام الدواء، وأخذوا منه مصحفه، وحبسوه في زنزانة انفرادية لمدة 23 ساعة.. ويخرج ساعة التريّض في ردهة العنبر لا تلامسه أشعة الشمس، وتغلق باقي زنازين العنبر ولا يُسمح لأحد بالتكلم معه، ومنعوا زيارة أهله له، أو حتى زيارة المحامين، ولم يتم إطلاعه على أوراق القضية المتهم بها، وتم التحفظ على أمواله، مع وضعه مع أصغر أبنائه على قوائم الإرهاب.. كل تلك الإجراءات بحق رجل قارب على إتمام عقده السابع، ولا يملك سوى كلمات حق أمام أسلحة وآليات عسكرية، لا وصف لها سوى أنها محاولة قتل بالبطيء.

مشكلة هذا الضئيل أنه يرى في كل سياسي مشروع تهديد لحكمه، وإذا جمع السياسي مع معارضته خطابا متماسكا حول الدولة، فإنه يُذعر منه ويراه خطرا حقيقيا. صحيح أن قدراته في التفكير محدودة، لكنها شديدة الانتباه لما يهدد منصبه الذي وصل إليه على حين غفلة من الجميع.

أبو الفتوح كان صادقا عندما قال في حوار قناة الجزيرة الأخير: "أنا أغْيَر على الجيش من السيسي"، ورغبته في إخراج الجيش من السياسة رغبة وطنية يتفق عليها الجميع، إلا قادة هذه المؤسسة الوطنية والهامة. وكان صادقا في حرصه على الدعوة الدينية، بفصلها "الوظيفي" عن الشق الحزبي، لكن هناك من لا يريدون الفصل، وهناك من يريدون الفصل التام لتتنحى الأخلاق والقيم عن الشأن العام كله. وهذا التوازن في المطالب السياسية والمجتمعية يفزع الحريصين على المقاعد الرسمية والأهلية، فهو لا ينطلق من أرضية هدم الدولة، بل يعارض نظامها السياسي فقط، ويميّز بين الدولة والقائمين على الحكم فيها، ويقدّم خطابا واضحا في هذا لا لبس فيه ولا مواربة، ويميّز كذلك بين الداعية والسياسي، ويرى أن من حق الجميع إبداء الرأي السياسي، كما أنه من حق الجميع ممارسة العمل الحزبي، لكن "نصيحته" أن يحدث فصل وظيفي بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية؛ لتفاوت الفارق بين أهداف ومنطلقات المؤسستين، وأيضا حرصا على استمرار الدور الدعوي إذا حدث تقلّب سياسي في المجتمع. ورأينا آثار التقلبات السياسية على الحركات الدعوية في أكثر من مجتمع، فهي رؤية تناسب المجتمعات التي حكمتها أو تحكمها ديكتاتوريات، أو لا تزال في حالة تحول ديمقراطي، وربما كانت رؤيته ستتغير لو كان ظروف المجتمع غير هذه.

عانى أبو الفتوح من تشويه دائم، لكن عندما تترك له مساحة لإيضاح وجهة نظره، فإنه يرمم شعبيته سريعا، وهو ما استشعره النظام الحالي في الحوار الأخير، فأراد كتم صوت الرجل تماما لمدة لا يعلم مداها إلا الله. وما نعلمه عن أبو الفتوح أنه سيظل صلبا وشرسا في مواجهة النظم المستبدة، وأن السجن لن يكسره رغم مرارة القيد والبعد عن الأهل والأحباب، وصدقه وهو يقول: "العيش في سجن أبو زعبل المصري خير لي من العيش في قصر من قصور لندن"؛ لامس الكثيرين عندما عاد متحملا مسؤوليته في البقاء داخل مصر وتصويب مسارها السياسي من داخلها.

فرج الله كرب الرجل المظلوم وهو في سجنه، والمظلوم وهو ينعم بحريته، وفرج كرب نائبه في الحزب محمد القصاص، وكرب كل المعتقلين المظلومين في سجون الاستبداد.. فرج كرب مصر كلها، ورد الغائبين إلى أهليهم ومحبيهم.
التعليقات (3)
فلسطيني
الأربعاء، 14-03-2018 01:01 م
مقال رائع في حق الفارس النبيل أبي الفتوح
تونسي ابن الثورة
الأربعاء، 14-03-2018 10:07 ص
لقد أخطأ السّيّد أبو الفتوح بمساندة الانقلاب العسكري على الرّئيس الشرعي المنتخب ديموقرطيّا الدّكتور محمّد مرسي ولم يتّعظ بمقولة أكلت يوم أكل الثّور الأبيض .
أحمد النسناس
الثلاثاء، 13-03-2018 10:40 م
أحسنت يا صديقي