كتاب عربي 21

هل دخلت الجهادية العالمية فلسطين

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
في كل مرة تتعرض فيها الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة للعدوان الغاشم من قبل المستعمرة الاستيطانية المدعوة "إسرائيل"، تتعالى أصوات أنصار نظرية المؤامرة في العالم العربي ــ وما أكثرهم ــ وجهاديي "الكيبورد" ــ وما أظرفهم ــ، بالقول: لماذا لا تضرب القاعدة "إسرائيل"؟، وعلى الرغم من استياء وعجز السائلين واستنكارهم؛ إلا أن التساؤل يستبطن إقرارا بالقوة الضاربة لتيارات الجهادية العالمية وصلابتها الإيديولوجية من جهة، وتسليما بتواطؤ الأنظمة
السلطوية العربية مع المستعمرة الاستيطانية الصهيونية من جهة أخرى.

لا يمكن فهم ما يجري في غزة بمعزل عن آليات الثورة المضادة التي عملت على تقويض ثورات الربيع العربي وإعادة إنتاج الأنظمة السلطوية في المنطقة، فمنذ بدء الهجوم العدواني الإسرائيلي "الجرف الصامد" على قطاع غزة في الثامن من تموز/ يوليو بدا المشهد العربي سورياليا بالكامل، فقد استُقبل الهجوم  باعتباره تحريرا للإنسان الفلسطيني من سلطة "حماس" الفاشية الإرهابوية، وهي ذات الذريعة التي استخدمتها الثورات المضادة في مواجهة الحركات والقوى الثورية، فسياسات "الحرب على الإرهاب" لا تزال الركن المكين في الانقلاب على نتائج الانتخابات الديمقراطية.

 المشهد بات مكرورا دون رتوش تجميلية فعندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 2006،  كان الهدف المعلن تدمير حزب الله، الأمر الذي استُقبل آنذاك بالفرح والحبور والسرور من الأنظمة السلطوية العربية القمعية وأجهزتها الإيديولوجية من المثقفين النيوليبراليّين، وعلى الرغم من أن الحملة العدوانية لم تسفر عن القضاء على حزب الله بل عزّز قوّته العسكرية ومكانته الشعبية وساهم في تراجع مكانة إسرائيل العسكرية في المنطقة، إلا أن حلفاء إسرائيل من الأنظمة السلطوية العربية بدت ممتنة وراغبة في المضي قدما لتخليص المنطقة  من الخطر الإيراني المشترك.

لن تختلف الصورة اليوم فحماس لن تكون بوابة دمج إسرائيل في المنطقة، وسوف تعود أكثر قوة عسكريا وأرفع مكانة شعبيا، ولا يمكن أن تصبح إسرائيل عضوا في جامعة الدول العربية، فالمشروع الأمريكي الإسرائيلي بدمج إسرائيل في المنطقة عبر بناء تحالف إقليمي عربي إسرائيلي يعيد تعريف الأصدقاء والأعداء، وعمليات استدخال إسرائيا كصديق مستحيلة، كما أن تعريف إيران كعدو وجودي فاشلة، كما أن تعريف حماس وحزب الله  والإخوان كخطر إرهابي بات مهزلة، والركون إلى إسرائيل كقوة وحيدة قادرة على الإجهاز على نتائج الربيع العربي والدخول في عصر التحالف السعيد بين الأنظمة العربية السلطوية والسلطة الفلسطينية المتعاونة مع إسرائيل من أساطير الأولين، ويبدو النقاش الدائر في بعض فضاءات الإعلام العربي مع استمرار المجازر  بحق أكثر من مليون ونصف فلسطيني في غزة،  كجزء من استراتيجية أمريكية لبناء تحالف مكشوف وحقيقي بين السلطة الفلسطينية المتعاونة والأنظمة العربية مع إسرائيل، بدعم من  النيوليبراليين العرب، بحيث تتولى إسرائيل مهمة القضاء على حماس المنتخبة ديمقراطيا.

لا جدال بأن أهداف الحملة العدوانية الإسرائيلية على غزة باتت فاشلة وأكثر تواضعا، وهي تعلم أن حركة حماس لا شأن لها بقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل، فقد تبنت جماعة "أنصار الدولة الإسلامية في بيت المقدس" التابعة لخلافة البغدادي في العراق والشام بشكل رسمي عملية الخطف والقتل، لكن نتنياهو يصر أن حماس ينبغي أن تدفع الثمن، إذ لم يعد هدف العدوان إسقاط حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وإعادة إنتاج السلطوية وبناء جهاز حاكم مدجن في سياق استكمال الثورة المضادة في المنطقة، فالمبادرة المصرية بصيغتها البائسة أصبحت من الماضي، والخوف من ظهور جيل فلسطيني أكثر راديكالية بات مقلقا وراهنا، وتبدو إرهاصات دخول الجهادية العالمية إلى فلسطين حلما أكثر حضورا، بعد أن أصبحت الشروط والظروف والأسباب الموضوعية في فلسطين  ولمنطقة مثالية في خلق بيئات حاضنة لأنتاج الجهاديين العالميين.

عقب سلسلة من المؤتمرات الإسرائيلية التي جرت في 30 كانون ثاني/يناير 2014، اعتبر العديد من المسؤولين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الجهادية العالمية باتت على الحدود الإسرائيلية وأصبحت تشكل تهديدا جديدا قد يتقدّم على المسألة النووية الإيرانية، وبدأ يتحوّل إلى التهديد الأمني الأول للبلاد، وقد علّق أفيف كوخافي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، في أحد المؤتمرات أن الجهادية العالمية "قد تكون الظاهرة الأكثر إثارة للقلق" التي ستضطرّ إسرائيل إلى مواجهتها في المستقبل القريب.

في الوقت الذي شهد تراجع القضية الفلسطينية عربيا باعتبارها قضية العرب المركزية الأولى، ثم تحولها إلى مسألة هامشية، وتقدم النزعة القطرية، ودخول العرب في سياق السلام الإسرائيلي، كانت الجهادية العالمية تعيد تأسيس المسألة الفلسطينية وتعمل على بناء سردية قتالية محورها فلسطين،  التي غدت في صلب المشروع الجهادي العالمي منذ بداياته الأولى في أفغانستان، وفي مرحلته الثانية احتلت فلسطين قلب النشأة فيه عبر الإعلان عن تشكيل "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" في شباط / فبراير 1998، وفي أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 أطلق أسامة بن لادن قسمه الشهير عن فلسطين: " أقسم بالله العلي العظيم لن تنعم أمريكا ولا من يعيش في أمريكا بالأمن حتى نعيشه واقعا في فلسطين وحتى تخرج جميع الجيوش الكافرة من أرض محمد صلى الله عليه وسلم".

  لقد تطورت السردية الجهادية العالمية الخاصة بفلسطين مع ولادة الجيل الثالث عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وباتت عبارة أبو مصعب الزرقاوي الشهيرة والتي وردت في خطابه المرئي الأول "هذا بلاغ للناس" : "نقاتل في العراق وعيوننا على بيت المقدس"، ثيمة راسخة في خطابات الجهادية العالمية، ففي خطاب الإعلان عن تأسيس قاعدة الجهاد في جزيرة العرب بعد اندماج الفرعين السعودي واليمني بداية 2009  كان عنوان الشريط الذي صدر عن مؤسستها الإعلامية "الملاحم": "من هنا نبدأ وفي الأقصى نلتقي"، كما أن الأشرطة المرئية لمؤسسة "السحاب" التابعة لتنظيم القاعدة المركزي، تغيّر نهجها منذ العدوان على غزة 2009، وأصبحت تضع صورة المسجد الأقصى خلفية لبداية أشرطتها، وكذلك فعلت كافة الفروع الإقليمية، كقاعدة المغرب الإسلامي، ومؤسستها الإعلامية "الأندلس" التي ظهرت في أشرطتها  منذ 2009 قبة الصخرة في بداية الشريط كخلفية ومرفقة بنشيد "عذرا فلسطين"، وكذلك في شريط: "غزوة الشريعة " حيث ظهرت قبة الصخرة في مطلعه يمرفقه بنشيد "صبرا يا أقصى".

في سياق تأسيس الجهادية العالمية كانت فلسطين المحرك الأساس منذ بداياتها الأولى، ولا غرابة في كون أبرز المنظرين الجهاديين من أصول فلسطينية، إذ يعتبر الدكتور صالح سرية من أوائل الفلسطينيين الذين آمنوا بالنهج الجهادي العالمي، فقد عمل على تأسيس تنظيم إسلامي جهادي في مصر باسم "الفنية العسكرية" وتم القضاء عليه عام 1974 وانتهى باعدامه، وكان يهدف إلى قلب نظام الحكم باعتباره خطوة على طريق تحرير فلسطين، وفق تدشين رؤية تقوم على الاعتقاد بأولوية قتال "العدو القريب" ممثلا بالأنظمة العربية التي تحول دون قتال "العدو البعيد" ممثلا بإسرائيل، الأمر الذي سوف يتطور مع الفلسطيني محمد سالم الرحال الذي ساهم في تأسيس فكر حركة "الجهاد" في مصر، ويعتبر الشيخ الفلسطيني عبدالله عزام الأب الروحي للجهادية العالمية ومؤسس ظاهرة الأفغان العرب إبان حقبة الجهاد الأفغاني خلال الثمانينيات من القرن الماضي، وقد عمل على طرح مشروع "الحهاد التضامني" الذي ينتهي بتحرير فلسطين، وقد تولى تطوير أطروحات الجهاد العالمي بعد وفاته اثنين من فلسطينيي الشتات وهما: الشيخ عصام البرقاوي" أبو محمد المقدسي"، والشيخ عمر محمود أبو عمر" أبو قتادة الفلسطيني"، وقد طورا مفهوم الجهاد وقتال العدو الأبعد ممثلا بالولايات المتحدة وحلفائها من الأنظمة العربية كطريق لتحرير فلسطين.

 لقد ساهمت عملية عزل ومحاصرة وإضعاف حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية في بروز سردية إسلامية فلسطينية أشد صلابة وأكثر تمسكا بحدود العلاقة الصراعية الوجودية مع المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، فالتعامل مع حركة "حماس" باعتبارها حركة إرهابية ساهم في تصاعد نفوذ الجهادية العالمية في فلسطين، ويبدو أن رفض التعاون مع حركات أكثر براغماتية يقود إلى بروز أجيال أكثر راديكالية، كما حدث الأمر سابقا مع منظمة التحرير الفلسطينية بالتي عوملت كمنظمة إرهابية،  الأمر الذي أفسح المجال لسيطرة الحركات الجهادية الوطنية ممثلة بحركة حماس والجهاد الإسلامي، واليوم يتكرر ذات السيناريو الذي حدث مع المنظمة مع حركة حماس وحكومتها المنتخبة ديمقراطيا من الشعب الفلسطيني.

لقد عملت تكيّفات حركة حماس مع البيئة الفلسطينية والإقليمية والدولية المعقدة على خلق معادلة صعبة انعكست بتفتيت إيديولوجيتها الصلبة المتعلقة بنهج المقاومة، وأضعفت هيكليتها التنظيمية المتماسكة، فقرار الحركة  المشاركة في الانتخابات الوطنية عام 2006، أدى إلى خسارتها بعض أعضائها المعارضين للنهج الديمقراطي الجديد كأداة للتغيير، وقد تطور لاحقا عقب سيطرتها على القطاع 2007 وبروز نهج براغماتي يدشن لعمليات هدنة طويلة مع إسرائيل، حيث بدأ بعض الأفراد الأكثر راديكالية   في صفوف الجناح العسكري "كتائب عز الدين القسام"، بتسربون إلى صفوف التيارات السلفية الجهادية العالمية.

الانقسام الفلسطيني بين الضفة والقطاع  ووجود حكومتين أدى إلى تنامي الجهادية العالمية على الجانبين، فتعامل السلطة الفلسطينية مع النشطاء والمقاومين باعتبارهم "إرهابيين" وإلقاء القبض عليهم والتنسيق الأمني الكامل مع إسرائيل في الضفة الغربية التي عملت من دون رادع، على تكثيف حملات الاعتقال، وسياسة إسرائيل بمصادرة الأراضي، ووالمضي في مشاريع "التهويد" التي تنفّذها في القدس، شكّلت عاملا إضافيا لصعود الميول الجهادية العالمية في الضفة الغربية، كما ساهمت محاولة حماس بضبط سلوك المقاومة وعملية اعتقال الجهاديين الجدد، والدخول في صراع مسلح مع بعض الحركات الجهادية الصاعدة كجماعة "أنصار جند الله" عام 2009، في تنامي الجهادية العالمية في غزة.

في حقبة الثورات المضادة على على منجزات الربيع العربي، وفشل مسارات المفاوضات العبثية مع المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، ودخول المقاومة في مسارات مسدودة وغياب التوافق الفلسطيني والسياسات العدوانية الإسرائيلية، أصبح للجهادية العالمية مكان في فلسطين، إذ باتت شبكات الجهاديين منتشرة ونهج مجاميع الخلايا ينتشر واجتهادات الجهاد الفردي ناجزة، فقد كشفت  مجموعة "يطا" الجهادية عن بروز تنسيق مع المجموعات الجهادية العالمية، فقد تبنّى تنظيم "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس" الذي ينشط في غزة وسيناء المسؤولية عن هجوم الضفة الغربية الذي نفّذته مجموعة يطا، في بيان صادر بتاريخ 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، حيث أعلن عن انطلاق مرحلة جديدة من الجهاد في الضفة الغربية سيتم خلالها استهداف إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي اتّهمها بالخيانة.

 وكان مجلس شورى المجاهدين قد تأسس في 18حزيران/يونيو 2012، وهو عبارة عن ائتلاف يضمّ العديد من التنظيمات الجهادية التي ظهرت منذ سيطرة حماس على غزة في العام 2007، ثم انتشرت في سيناء، ومن أهم مكوناتها: "جيش الإسلام" و"جيش الأمة" و"جماعة التوحيد والجهاد" و"جند أنصار الله"، وكانت قبل ذلك قد ظهرت جماعة "أنصار بيت المقدس" إلى العلن في 5 شباط/فبراير 2011، وهي جماعة جهادية عالمية نفذت عدة عمليات ضد مصر وإسرائيل، وبالإضافة إلى المنظمتين السابقتين هناك "لواء التوحيد" التابع لألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب عبدالله عزام. 

على مدى سنوات نجحت السلطة الفلسطينية في الضفة نسبيا في تفكيك البنية التحتية العسكرية لحركة حماس، لكنها أخفقت في بناء نموذج مقنع في الحكم، فقد تدهورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية خلال الأعوام الماضية، الأمر الذي شكّل عاملا إضافيا في خلق بيئة حاضنة للجهادية العالمية، كما أن مفاوضات السلام التي طرحت كخيار استراتيجي وحيد في إطار حركة فتح فشل في تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية، وعلى الجانب الآخر كانت سياسات حماس الواقعية في غزة تعمل على تعزيز أطروحة الأجنحة الأكثر راديكالية.

شواهد الجهادية العالمية في فلسطين باتت ظاهرة، ويبدو أن سياسات الأنظمة السلطوية العربية المتحالفة مع المستعمرة الاستيطانية برعاية أمريكية، تقود إلى الدخول في أفق العولمة الجهادية، فقد أصبحت المنطقة خزانا جهاديا يوشك على الانفجار في كافة أرجاء المنطقة والمعمورة، في ظل غياب رؤية إقليمية ودولية تعالج الأسباب الموضوعية العميقة لمشكلات المنطقة بعيدا عن سياسات "الحرب على الإرهاب" البائسة،و سياسات "الهوية" القاتلة، وتنامي التحشيد الطائفي، وتعميم الخراب الاقتصادي، وشيوع الفساد السياسي وتفشي الظلم الاجتماعي.
التعليقات (0)