كتاب عربي 21

النهضة الجديدة .. علمنة أم تونسة؟

لطفي زيتون
1300x600
1300x600
بعد أسابيع قليلة تعقد النهضة مؤتمرها العاشر والثاني في كنف العلنية. المؤتمر المرتقب لن يكون عاديا بكل المقاييس في ضوء انتظارات بسقف مرتفع من التونسيين عموما ومن النهضويين خصوصا بعد سنوات من المخاض الصعب والمتواصل، جمعت فيها النهضة شتاتها في وقت قياسي وفازت في انتخابات قادتها إلى تجربة حكم لم تعمر طويلا وإن تحولت بفعل شجاعة رئيسها الشيخ راشد الغنوشي إلى استثناء تونسي في زمن الانقلابات والانكسارات.

لقد خيبت النهضة أمل كثيرين من أنصارها ومواطنيها بأداء حكومي يحتاج إلى مزيد من التمحيص والتدقيق والتمييز بين النجاح والفشل والعجز عن إبلاغ النجاح أو تفسير الأسباب الحقيقية للوهن والضعف. ولكن خروجها المشرف من الحكومة أعاد توزيع الأوراق إلى حين.

كما رفضت النهضة مواصلة المواجهة و الانجرار إلى العنف المسلح في التسعينات ، لم تتمسك بمقعد متحرك في سفينة تغرق سنة 2013. فتم إنقاذ التجربة/ الثورة، في انتظار الإجابة عن الأسئلة التي نجح خصومها إلى حد كبير في استخدامها بمنطق التأليب والتجييش والشيطنة والتحريض.

والنهضة التي نرجو أنها تعلمت أن تدفع فاتورة أخطائها بكل شجاعة ومسؤولية تقف الآن أمام لحظة تاريخية نريدها لحظة مصارحة ومراجعة ونقد وطبعا لحظة طرح البديل.

هذا ما أردت في أكثر من مقال تقديمه للقارئ وهذا ما بات يقوله كثير من إخواني دون خجل أو خوف: نعم نحن نعترف بأن الزمن تغير ولم يعد ثمة دكتاتور لنواجهه ولا سجن أو منفى ولم تعد بنا حاجة إلى البقاء في المربع الذي رسمه لنا عالم الاجتماع عبد الباقي الهرماسي عندما أطلق علينا تسمية "الإسلام الاحتجاجي".

ثمة الآن ديمقراطية ناشئة تبحث عن نخبة سياسية مسؤولة قادرة على قيادة البلاد نحو شاطئ الأمان الاقتصادي والأمني والاجتماعي والسياسي ... هذه النخبة بكل مكوناتها؛ إسلاميون ودساترة ويسار وقوميون وتكنوقراط ... مطالبة بأن تكون في مستوى قيادي رفيع، لن يشفع لها الماضي ولا الشعارات الفضفاضة من زمن الثورة أو ما قبلها. شعبنا ينتظر حلولا وبرامج وخطابا سياسيا مقنعا نابعا من الواقع. هذا ما يجعلنا في النهضة في أفق المؤتمر العاشر أمام مسؤولية تاريخية وتحد كبير: هل سننجح في تحقيق الحلم بنهضة جديدة تقطع مع تراث مواجهة الدكتاتورية والصراع مع الدولة، لنبني حزبا بمضامين عصرية انطلاقا من مرجعيتنا الإسلامية التي حولتها الثورة إلى مرجعية جامعة للدولة والمجتمع بمختلف أطيافه؟

هذه النقطة بالذات أريد التوقف عندها، في ارتباط أولا: بمحاولة فاشلة من بعض الأطراف داخل النهضة وخارجها لتلبيس بعض المفاهيم وتصوير الدعوة للإصلاح كمسار لعلمنة النهضة، وهو تكتيك قديم/ جديد لاستثارة العواطف ودغدغة المشاعر وكأن الجمهور المستهدف مجموعة من الأغبياء والبسطاء.

وثانيا: بمخاوف قطاعات من المواطنين وخاصة النساء والشباب واعتبرها مشروعة من أن النهضة تُمارس الخطاب المزدوج وأنها تقول في الظاهر ما تخفيه من أجندة سرية لتغيير النمط المجتمعي والتي يعتبرها بعض خصومنا وحتى جزء من النخبة التونسية المعتدلة التي فشلنا أو قصرنا في التواصل معها جوهر المشروع الإسلامي.

تختلط النيران "الصديقة" بنيران التشكيك والتحريض بما يستدعي التدقيق والتوضيح باختزال ودون "لف ودوران" كما يقال.

إن عملية الإصلاح التي يقودها لحسن الحظ مؤسس الحركة الشيخ راشد الغنوشي تقوم على مفهوم مركزي هو التعايش بين أبناء الوطن الواحد سواء أكانوا من العلمانيين أو الإسلاميين هذا اذا بقي لهذه التصنيفات الأيديولوجية من معنى بعد أن حررت الثورة الدولة من الصدام التاريخي بينها وبين الهوية وفتحت مجال الحرية واسعا أمام ممارسة الشعائر والانتظام المجتمعي وغيرت طبيعتها من دولة مركزية قاهرة إلى دولة تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع.

فالتعايش يعني ضرورة أن الإسلامي يبقى إسلاميا والعلماني يبقى علمانيا وأن الرابط بينهما هو أساس العيش المشترك أي المواطنة كما فصلها الدستور وما ينبثق عنه من قوانين والانتماء للوطن والدفاع عن رايته.

إنني حين أدعو إلى المصالحة والعفو والتقارب مع الدساترة وتطوير النهضة وتحرير الإسلام من أسر الصراع السياسي، باعتباره المرجعية الجامعة لكل التونسيين عقيدة أو ثقافة، هل يعني ذلك أنني أسير في اتجاه العلمنة؟. وحين تسمع من خصومنا شهادة حق في الاعتراف بمدنية النهضة وبأنها دعامة أساسية للتوافق، هل يعني ذلك أنهم تحولوا إلى إسلاميين؟

لقد حدد القانون التونسي جيدا ضوابط العمل الحزبي و حركة النهضة برنامجا وهيكلة ونشاطا ليس فيها ما يستدعي المراجعة من هذه الناحية. فحزبنا قانوني وهذا واجب وليس منة. أين المشكلة إذن؟ ولماذا نحتاج مؤتمرا للمراجعة والتجديد؟

أعتقد أن الجدل حول السياسي والدعوي استنزف طاقات كثيرة وخاصة من الذين توقفت معرفتهم بالنهضة عند انتمائهم للجماعة الإسلامية أو عند صراعات الجامعة التي لم يتخلص منها البعض.

الجدل يوحي بوجود حركتي نهضة واحدة في الظاهر والأخرى في الخفاء تمتد في دهاليز تنظيم دولي جزء صنعته مخيلة الأجهزة في أنظمة ما قبل الربيع العربي وجزء صنعه سلوك وخطاب قطاعات من الإسلاميين، أو في عصر الانقلابات.

ثمة من يتصور بأن النهضة هي مجرد فرع للإخوان المسلمين، وليست حزبا حاملا لكل هذا التاريخ بزعيم في حجم راشد الغنوشي. لهؤلاء أقول فقط إذا تأملتم تجربتي تونس ومصر بموضوعية الآن، فهل ستجدون العلاقة بين الإسلاميين هناك وهنا علاقة فرع يتبع الأصل، وهامش يتلقى تعليماته من الأصل؟

ولكن يجب أن نعترف أنه في عالم السياسة إذا تواتر فهم معين لمسألة ما فالمشكلة تكمن في الخطاب الذي يصدره المرسل، فمن هنا وجب على المؤتمر القادم حسم هذه المسألة نهائيا وبكامل الوضوح..

إن هواجسنا في النهضة مرتبطة بوضوح باستكمال مسار التونسة، وهو مسار لا يخص حزبنا فقط، بل كل الأحزاب التي بدأت أيديولوجية في مواجهتها لحكم الإطلاق.، لتجد نفسها بعد الثورة أمام دولة منفتحة تدار بالبرامج والسياسات، لا بالتنظيمات المغلقة ولا الشعارات الثورجية.

كيف نستكمل مسار التونسة الذي بدأ بإعلان ولادة الاتجاه الإسلامي كأول حركة إسلامية تتبنى الديمقراطية خيارا، وتدعم بالتخلي عن شعار "الإسلامي" مع ولادة النهضة وترسخ بالنقاشات التي تمت في الداخل والخارج في السنوات الأخيرة للمحنة للتعجيل بالذهاب نحو حزب عصري يقطع مع الراسب المتبقي من فترة التأسيس الأول الذي لم نتمكن من رسكلته في فضاء ديمقراطي وطني.

مسار التونسة لم يبدأ اليوم في النهضة بل بدأ في سنة 1989 ولكنه اصطدم للأسف بموقف عدمي من النهضة من قبل الدولة وجزء من النخبة قبل الثورة وببطء وتردد داخلي دون شك في الدفع نحو الانفتاح الواسع.

الآن تغير الوضع في تقديري، رغم عودة بعض الأطراف لوضع التخويف والشيطنة، ورغم ما يشوب النقاشات الداخلية من توتر واتهامات، وهو ما يعني أن المؤتمر القادم يحب أن يكون بعون الله مؤتمر استكمال مسار التونسة، لتتحول النهضة من حزب احتجاجي معارض للدولة إلى حزب عصري وطني منفتح مؤهل للمساهمة في تسيير دولة الحرية والديمقراطية والتنمية.

يا أيها النهضويون

الشعوب في العادة لا تعطي إلا فرصة واحدة، وها هو شعبكم يستثنيكم من ذلك، فيوفر لكم فرصة ثانية، فكونوا في موعد معه ومع التاريخ، وطوروا حزبكم؛ لتساهموا في بناء تونس تتسع لكل أبنائها..
0
التعليقات (0)