قضايا وآراء

مخاطر قرار نقل السفارة على اليهود

1300x600
لا يقل الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ أهمية عن قرارات غربية أخرى بحق اليهود، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، باعتراف كثير من اليهود أنفسهم. وهذه القرارات ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل تمتد تاريخيا إلى أكثر من قرن من الزمن. وهناك العديد من الشواهد على ذلك، منها ما جرى سنة 1917، أثناء اجتماعات الحكومة البريطانية لمناقشة ما سيعرف لاحقا بوعد بلفور. فقد قال الوزير اليهودي السير إدوين مونتيغيو أثناء هذه الاجتماعات: "إن اليهودية ليست قومية وإنما ديانة، وإنما أنا مواطن انجليزي. وإن إصدار إعلان تعاطف مع وطني قومي لليهود في فلسطين ليس في صالح اليهود".

لم يكن مونتيغيو يقف وحيدا في معارضته لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، من منطلقات مصلحية ودينية وإنسانية، بل كان كثير، إن لم يكن معظم يهود بريطانيا، معارضين لمثل هذه الخطوة. كان هؤلاء يرون أنهم قطعوا شوطا كبيرا خلال العقود التي سبقت 1917 في طريق الاندماج بالمجتمعات الأوروبية. وكان المتحمسون لخطوة الوطن القومي في فلسطين هم يهود أوروبا الشرقية الذين عانوا من الاضطهاد والتهميش، وكانت تمثلهم شخصيات يهودية هاجرت حدثيا لبريطانيا، مثل حاييم وايزمان وناحوم سوكولوف.

خلال السنوات التي تلت هذا الإعلان أو الوعد البريطاني، لم يحدث سوى مزيد من المشاكل والحساسيات بين اليهود من جهة، ومسلمي ومسيحيي فلسطين من جهة أخرى. أي أن الهجرات اليهودية من بيئة معادية للسامية في روسيا وأوروبا الشرقية في ذلك الوقت؛ لم تنتقل إلى بيئة مستقرة كما وُعدت أو أوهمت.

وبعد أقل من عقدين من الزمن، كشر أدولف هتلر عن أنيابه لليهود، وأذاقهم سوء العذاب، وسط حرب عالمية ثانية أتت على أخضر أوروبا ويابسها؛ لم يجنِ اليهود منها سوى مرارة العلقم. وأدرك رموز وزعماء يهود أوروبا الشرقية أخيرا أن معاداة السامية لا تأتي من جهة شرق أوروبا فقط، وإنما من غربها أيضا. وبدلا من أن يفيق هؤلاء إلى أن المشروع الاستعماري الغربي لا يستهدف مصلحة اليهود في المقام الأول، وإنما يلعب بهم وبمصائرهم، أكملوا الطريق في إعلان دولة إسرائيل، وخوض معركة مع العرب والمسلمين الذين لم يساهموا في موجات معاداة السامية واضطهاد اليهود التي اجتاحت أوروبا وروسيا. فقد أمن اليهود العرب على أنفسهم وحقوقهم في عديد من الدول العربية، في الوقت الذي يتم فيه التضييق على يهود أوروبا.

تم إيهام اليهود بأنهم ينشئون دولة ديمقراطية حديثة تداوي جراح ماضيهم. لكن الحقيقة أنه لا يختلف اثنان في أن إسرائيل دولة احتلال، باعتراف كل القوانين والأعراف الدولية، وأنها متماشية إلى حد التماهي مع مصالح القوى الكبرى، وأنها، وإن كانت تزعم أنها ديمقراطية، فإنها تستمد قوتها من الديكتاتوريات المحيطة بها. فلا تشعر إسرائيل بالأمان إلا حينما تمتلئ السجون العربية بالمعارضين السياسيين، ولا تقيم تحالفات وثيقة سوى مع حكام عرب غير ديمقراطيين. وهو أمر يتناقض مع ديمقراطيتها المزعومة، ناهيك عن الحديث عن التنكيل بالفلسطينيين.

وفي هذا الإطار الشائك والتاريخ الممتد من الاستثمار الاستعماري في إسرائيل، يأتي قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ليصب مزيدا من الزيت على النار. وهو قرار قد يفرح به بعض اليمين الإسرائيلي، ولكنه قطعا لن يقنع مئات من الألاف من الإسرائيليين الذين يقيمون في الخارج بأن يعودوا ليقيموا في إسرائيل، ولن يوقف عداد الهجرة العكسية التي تزداد يوما بعد آخر. فقد نشرت صحيفة هآرتس في كانون الأول/ ديسمبر 2012؛ بحثا أعده البروفيسور سرجيو ديلي بيرجولا، من الجامعة العبرية في القدس، يشير إلى أن 40 في المئة من الإسرائيليين يفكرّون في الهجرة، وأن الهجرة تكثر خصوصا وسط العلمانيين من الشباب ذوي المهارات والشهادات العالية. ويكفي إسرائيل عارا أن هذا القرار لم تستطع أن تنتزعه سوى من رئيس أجمع الكل على عنصريته، وتحيط به شبهات الفساد من كل جانب.

إن اللوبي الصهيوني يبذل ملايين الدولارات في الغرب والشرق دفاعا عن قضية خاسرة من كافة الوجوه؛ لم يجنِ اليهود منها، سواء في إسرائيل أو خارجها، سوى مزيد من المشاكل، فضلا عن انضواء كثير من اليهود ضمن حركات مناهضة الاحتلال الإسرائيلي وفضح ممارساته في العالم. وما حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها سوى إحدى تجليات هذا الحراك.