قضايا وآراء

"غضبة" القدس.. عودة العصمة للشعوب

1300x600

غضبت الشعوب من أجل القدس، وحُق لها أن تغضب.. وتحركت في مظاهرات عارمة، وهو ليس كل ما تملك. وتباينت مواقف حكامنا تجاه الجريمة، وكان منها المشارك، وإن أظهر لشعبه خلاف ذلك.. هي غضبة مستحقة، وهي البداية التي ينبغي أن يعقبها الكثير من التحركات حتى إسقاط القرار الأمريكي أو تجميده.

ندرك أن القرار الأمريكي لم يكن مجرد تنفيذ لوعد انتخابي؛ لطالما تعهد به المرشحون الرئاسيون الأمريكييون ثم تنصلوا منه لاحقا تحت وقع المقاومة، ولم يكن فقط هروبا للأمام من قبل ترامب المحاصر باتهامات تهدد عرشه، ولكنه أيضا كان استهتارا بالشعوب العربية "المقموعة". لقد تعهد ترامب في حملته الانتخابية بعدة تعهدات، لم يستطع أن ينفذ منها شيئا سوى هذا الخاص بالقدس. لقد عجز عن بناء الجدار الحاجز مع المكسيك، وعجز عن إلغاء مشروع أوباما للرعاية الصحية، وعجز عن إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وعجزعن مواجهة تهديدات كوريا الشمالية، لكنه استأسد على العرب وقضيتهم، بعد أن تيقن من نجاح الثورات المضادة للربيع العربي، وبعد فرض الخوف على شعوب المنطقة من خلال قادة تلك الثورات المضادة، وعلى رأسهم قادة الانقلاب في مصر التي كانت دائما هي تيرمومتر الشعوب العربية تجاه القضية الفلسطينية تحديدا..

 

القرار الأمريكي هو ثمرة طبيعة للثورات المضادة في المنطقة، كما أنه يعد جزءا من صفقة القرن التي يتحدث عنها ترامب كثيرا

باختصار، يمكننا أن نقول إن القرار الأمريكي هو ثمرة طبيعة للثورات المضادة في المنطقة، كما أنه يعد جزءا من صفقة القرن التي يتحدث عنها ترامب كثيرا، والتي تقضي بتسوية نهائية للقضية الفلسطينية؛ عبر إقامة وطن بديل للفلسطينيين على غير أرضهم التاريخية، والتي سيكون جزء منها أرضا مصرية.

بنت الإدارة الأمريكية حسابات قرارها على نتائج تنسيقها المسبق مع بعض وكلائها في المنطقة، وخاصة عبد الفتاح السيسي ومحمد بن سلمان، وهو ما كشفته القناة العاشرة الصهيونية. ومن الواضح أن هذا التنسيق المسبق تضمن السماح بصدور بعض بيانات الشجب والإدانة الظاهرية، وهو ما فعلته وزارتا الخارجية المصرية والسعودية، وغيرهما. لكن الإدارة الأمريكية، ومعها توابعها من حكام العرب، لم يكونوا يقدرون حجم الغضب الشعبي الذي اندلع في الكثير من البلدان، بما فيها مصر نفسها التي حرصت سلطة الانقلاب فيها على عدم السماح بالمظاهرات؛ لأنها تدرك أن عودة المظاهرات للشارع سينقلب ضدها، فمن تجرأ وخرج وهتف ضد ترامب اليوم، سيخرج ويهتف غدا ضد السيسي، ولذلك جرى الاعتداء على وقفة محدودة على سلالم نقابة الصحفيين، وتم اعتقال عدد من الصحفيين والنشطاء، كما رفضت وزارة الداخلية طلبا رسميا لعدة أحزاب مصرية (من أحزاب 30 حزيران/ يونيو) بتنظيم وقفة محددة المدة والعدد، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تتحكم في الغضب الشعبي حتى النهاية، فانفجر في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة، وفي العديد من الجامعات المصرية، معيدا الروح لتلك الجامعات بعد أن خبت حوالي ثلاث سنوات نتيجة القمع الشديد.

 

لأن الغضبة الشعبية العربية كانت فوق مستوى توقعات القادة العرب، فقد سعوا لمجاراتها ظاهريا


ولأن الغضبة الشعبية العربية كانت فوق مستوى توقعات القادة العرب، فقد سعوا لمجاراتها ظاهريا. وظهر ذلك جليا في كلمات وزراء الخارجيية في اجتماعهم الطارئ في القاهرة مساء السبت. لقد تحدث الكثيرون منهم كما لو أنهم يتحدثون أمام مظاهرة من تلك المظاهرات، وعبر معظمهم عن تقديرهم لغضب وتحركات شعوبهم، ولكنهم أيضا لم يعلنوا خطوات عملية في كلماتهم، ربما باستثناء وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل الذي مثل حالة خاصة؛ كونه المسيحي الوحيد بينهم، ومع ذلك كان أكثرهم جرأة في نقد القرار الأمريكي، وتقديم مقترحات عملية لمواجهته علنا، وعدم الاكتفاء بما وصفه ببيان "رفع العتب" (ظننت شخصيا أن الآخرين احتفظوا بمقترحاتهم للجلسة السرية وخاب ظني). فقد دعا الوزير اللبناني إلى التحرك عربيا باسم الجامعة، وباسم كل دولة عربية منفردة في مجلس الأمن، واتخاذ تدابير عقابية ضد أي دولة تنقل سفارتها إلى القدس، مذكرا بالقرار السعودي العراقي المشترك عام 1981 بوقف ضخ النفط إلى الولايات المتحدة؛ ما أجبر ريجان على وقف تنفيذ قراره بنقل السفارة في ذلك الوقت. كما دعا للسماح بانتفاضة شعبية عربية واحدة في كل الدول العربية، ودعا للمصالحة العربية العربية باعتبارها السبيل الوحيد للخلاص من هذه الأزمة. وأخيرا، دعا إلى قمة عربية خاصة وطارئة من أجل القدس؛ التي من دونها - حسب كلامه - لا عرب ولا عروبة.

كان المتوقع، بعد الكلمات النارية التي تحدث بها الوزراء العرب في اجتماعهم، وتأكيد أغلبهم على ضرورة خروج قرارات قوية تناسب هذه اللحظة العصيبة، أن نرى شيئا من هذه القرارات القوية، لكن البيان الختامي والمؤتمر الصحفي الختامي الذي تأخر كثيرا، بسبب بعض الخلافات، أصابنا بخيبة أمل كالعادة. فقد تمخض الجبل ليلد فأرا.. توصيات شجب وإدانة لا تنتج أثرا، اللهم إلا ما أشاروا إليه في مطلع بيانهم من أن القرار الأمريكي يهدد بدفع المنطقة إلى هاوية، أي أن ما يعنيهم هو استقرار حكمهم، والخوف من هذه الهاوية التي تأخذهم ومعهم كفيلهم الأمريكي والصهيوني. لذلك، فقد رفضوا أي تجميد لما يسمى مبادرة السلام العربية، رغم أن بيانهم الختامي وصف الولايات المتحدة بأنها لم تعد راعيا مقبولا لعملية السلام، كما فشلوا في تحديد موعد لقمة عربية طارئة عنوانها القدس، ولم يحددوا أي إجراءات عقابية ضد الدول التي تعتزم نقل سفاراتها للقدس، حسبما طلب الوزير اللبناني وآخرون. وكان السؤال الختامي في المؤتمر الصحفي؛ عن مدى استجابة الاجتماع ومخرجاته لتطلعات الشارع العربي، كاشفا عن فشل الاجتماع، وهو السؤال الذي تهرب من الإجابة عليه رئيس الجلسة، الوزير الجيبوتي، وكذا الوزير الأردني الذي ترأس بلاده الدورة الحالية للقمة، والوزير الفلسطيني، واضطر الأمين العام للجامعة العربية أن يرد عليه بكلام إنشائي مقتضب وغير مقنع بالمرة.

كان سقوط القدس وفلسطين عام 1948 هو الشرارة لاندلاع ثورات التحرر من الاحتلال الأجنبي، والتخلص من عملاء ذلك الاستعمار الذين تسببوا في تلك الكارثة.. وكان الخوف من ثورات الربيع العربي على العدو الصهيوني أحد الدوافع الرئيسية للانقلاب عليها.. والمأمول أن يكون الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني؛ هو شرارة عودة الروح أو العصمة للثورات والشعوب العربية، والتخلص من الحكام الذين قايضوا بفلسطين بقاءهم في المناصب وقمع شعوبهم.