قضايا وآراء

خطورة فكر غولن على المستقبل التركي والإسلامي

1300x600
توطئة

تعقدت الأحداث واتخذت شكلا مختلفا من أشكال الصراع في تركيا، بعد فشل الانقلاب العسكري الشامل، الذي تصدى له الشعب التركي ببسالة، ليعلَن أن المتهم الأول فيه جماعة من أكبر الجماعات الدينية في تركيا التي يترأسها ويديرها "محمد فتح الله غولن"، ذلك الذي احتضنته أمريكا ورفضت تسليمه حتى اليوم. وقد يعجب البعض كيف بجماعة توغلت في المجتمع التركي فبسطت نفوذها على التعليم بإنشاء المدارس الخاصة بها، وتداخلت في الأجهزة الأمنية فصار لها ضباط يعتنقون فكرها في الجيش والشرطة، وامتدت العلاقة بين تلك المنظمة وحكام تركيا العسكريين ليتركوا له الحرية كاملة في نشر أفكاره الصوفية في المدارس التابعة له، التي تدرس العلمانية وتفصل بين الدين والدولة، ومن هنا كان احتضان الولايات المتحدة لغولن وتمسكها به ودعمه. ونظرا للدور الخطير الذي قام به "غولن" فقد بحثت في كتاباته وتوجهه من خلال مجلته التركية التي تصدر بالعربية، ثم الاطلاع على بعض مؤلفاته، لأجد ضالتي في السبب الرئيسي لكف المحاربين لكل من يمثل الإسلام أيديهم عن هذا الرجل ومؤسساته المنتشرة انتشارا كبيرا داخل تركيا، والدور الخطير الذي أداه داخل المجتمع التركي.

مؤسسات غولن الصوفية

لا ينكر مطلع على مؤلفات "فتح الله غولن" دقة استخدام مفرداته، التي تترجم للعربية ولغات أخرى، فالرجل في كل كلمة يكتبها صوفي من الطراز الأول، يفصل فصلا تاما بين ذات الإنسان الداخلية وممارساته المجتمعية، إذ هو يركز على تبعية "المريد" لـ"الشيخ" لتتطهر ذاته وسط مجتمع مغلق يصنعه هو على يده، وله أن يتعامل مع المجتمع بتلك الروح المنفصلة تماما عن الانتماء لذلك المجتمع.

وخطورة الصوفية التي يتبناها الفكر الغولني تتمثل في تفسير الأحداث والأزمات والسقوط التاريخي للأمة تفسيرا قدريا، فهي تصف الاستعمار بالقدر المقدر على الأمة، ويجب التعامل معه على أنه أمر قدري بقلب راض. وفي هذا الصدد نشرت صحيفة زمان (العدد 1633 بتاريخ 12/10/2003) على لسان دانييل بايبس"، رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة الأمريكية يقول:

“الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائيا عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة".

ومن الولايات المتحدة التي يعيش فيها منذ العام 1999، يعلن "غولن" أن الإسلام دين "اعتقاد وصلوات وأخلاق طيبة"، وحارب فكرة "هيمنة" الدين علي حياة الناس، ومن هنا دعي لمؤتمرات حوار للتقارب بين الأديان، فالتقى البابا يوحنا بولس الثاني عام 1998، ليتحدث عن الإسلام المعتدل، كما شارك في حوارات ولقاءات مع قيادات دينية يهودية لمحاربة فكرة الإسلام العملي، لصالح الإسلام اللاهوتي الذي لم يعرفه المسلمون عبر عصورهم. وانتبه الغرب عامة لأهمية وجود الرجل للحفاظ علي الهيمنة الغربية على تركيا، فدعم مؤسساته التعليمية والصحية وعلاقاته الأمنية؛ ضمانة لوجود جيل يتقبل الوجود العلماني الغربي، بل ويزدري أي فكر إسلامي وسطي صحيح يقوم علي معاني العزة والكرامة والتضحية، من أجل دين يأبى الانبطاح والتعالي الغربي على الفرد المسلم الذي تشهد عليه حضارته التي بناها أجداده في أطراف الدولة التركية، ليقبل التعايش مقلدا لقشور الحضارة الغربية التي حاربت دينها حتى حبسته داخل جدران كاتدرائياته وكنائسه. ومن هنا يدرك المتابع كيف أن أمريكا تصر على حماية الرجل الذي مثل كنزا استراتيجيا لضمان وجودها في المنطقة، لدرجة أنها ترفض مقايضته مع القس المزعوم صاحب الأزمة الأخيرة في تركيا، بل وتضحي بعلاقاتها التاريخية مع دولة بحجم تركيا استطاعت في فترة وجيزة على يد رئيسها وحزبه أن تتجاوز أزمات أعجزت الكثير من الدول أن تلحق بها، رغم محدودية الإمكانات والتحديات الكبرى التي لاقاها أردوغان وما زال حتى اللحظة.

خطورة فكرة الصوفية على أنظمة الحكم

إن أكبر خطر قد يمثله الصوفي على أي نظام حاكم في أي قُطر هو نظرة الفرد المريد إلى الشيخ، فالصوفية تعتبر شيخها وليا ووكيلا عن الله في الأرض، وطاعته واجبة بلا منازع، دون الحاكم أو الدستور والقوانين والدولة والنظام، فحين يوجد فرد ذو مرجعيتين، مرجعية تحيا بين الناس بفكر علماني يفصل الدين عن حياته، ومرجعية تنتمي انتماء كليا لشيخ تمنحه القداسة وتعتقد فيه الضر والنفع، يكون الناتج إنسان يفعل أي شيء في سبيل إرضاء شيخه، ونفع ذاته، فشيخه الوحيد الذي يستطيع أن يسيره، وهو لا يملك أي انتماء للمجتمع الذي يعيش فيه، فهو كالقنبلة التي توشك على الانفجار في أي وقت؛ مهددة كل ما من شأنه يحافظ على اللحمة المجتمعية، وبما أن هؤلاء الشيوخ المتصوفة لا يعنيهم تبعية وطن أو استقلاله بقدر ما يهمهم مغانم شخصية وترسيخ مفاهيم صوفية تهبه المزيد من القداسة، فهو وتنظيمه يمثلان الخطر الأكبر على الأنظمة، والصديق الأوفى لأعداء الدول طالما أن الثمن يدفع بسخاء. إن المريد يعتقد أن الشيخ يد الله في الأرض، وفي وصف الشيخ الصوفي عبد العزيز الدباغ للشيخ الصوفي:

"اعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب، ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها. وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه؛ لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه. وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته؟" (الإبريز، ص192).

وفي مقاله بعنوان "أين تكمن خطورة جماعة فتح الله غولن"، يقول الكاتب "حماد القباج" في العام 2016، بعد المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري الأخير في تركيا يقول في إحدى فقراته: "إن مراكز الدراسات الغربية أوصت الساسة وصانعي القرار بضرورة دعم هذا النوع من التصوف والاستمرار في التحالف معه؛ وخصت فتح الله غولن بالذكر، فقد قسمت مؤسسة راند في تقريرها "إسلام حضاري ديمقراطي"؛ المجتمع المسلم إلى أربع فئات: المتشددين، والتقليديين، والمجددين، والعلمانيين.

وأوصت بأن المجددين هم من يجب على أمريكا أن تدعمهم للوصول إلى إسلام معتدل مساير للحضارة الغربية، وضربت عدة أمثلة لأولئك المجددين، وكان من أبرزهم فتح الله غولن، حيث قالت عنه: "غولن صيغة لتحديث الإسلام شديدة التأثر بالصوفية، ويركز على التنوع والتسامح واللاعنف" ا.ه.

هل زال الخطر عن تركيا المسلمة؟

ووسط تلك الأزمات المفتعلة، والحرب الشعواء علي تركيا ورئيسها المنتخب للمرة الثانية في انتخابات مبكرة دعا إليها بنفسه، حق لنا السؤال: هل زال خطر تلك الجماعة عن تركيا؟ أم إنها حلقة من حلقات الحرب طويلة الأمد؟

والجواب يتوقف على عمق الأحداث التي تمر بها البلاد، ويبدو أنه من السذاجة السياسية أن نعتبر أن الأزمة الناتجة لسعر الليرة أمام الدولار قد انتهت أو أوشكت على الانتهاء، فالبيت الأبيض مصمم رغم الضغوط الداخلية على إدارته لسحق الأتراك ولإفشال الرئيس التركي بأي ثمن، حتى لو كان الثمن كرسيه هو شخصيا، والتغريدات اليومية له على صفحته وتصريحات متحدثته تؤكدان كل لحظة الاستمرار في تلك المعركة مهما كلفتهم، ولن يستطيع "ترامب" أو غيره التأثير المباشر في الاقتصاد التركي والحياة اليومية التركية إلا بمساعدة ودعم داخلي، في شكل تنظيم قوي بقيت بعض أذرعه التي لم تنكشف بعد. إن حجم الانقلاب الأخير ينبئ بأن تنظيم "غولن" كان أكبر من كل التوقعات من حيث الانتشار والتغلغل، وأنه من العبث السياسي والأمني أن نحسب أنه قد اجتث من جذوره كلية، وما القلاقل التي تحدث مثل محاولات اغتيال المعارضين المهاجرين من البلاد العربية ونجاح بعضها، ثم محاولة ترحيل البعض إلا بإثارة ولعب من تلك المنظمة الصوفية المشبوهة. ولن تتوقف تلك المحاولات في زعزعة الأمن والاقتصاد لإثارة الشعب ضد رئيسه، رغم أن المحاولة الأخيرة أظهرت مدى وعي هذا الشعب والتفافه حول قيادته، بما فيها المعارضة الوطنية التي دعمت اقتصاد بلادها ضد تلك الحرب المعلنة والخفية. إن الأمور لن تحسم في أسابيع أو شهور، والحرب أمدها طويلة ولن تتوقف إلا بإجراءات مشددة منها:

1- وقفة جدية من الشعوب الإسلامية، وليس التركية وحدها، بمقاطعة شاملة للمنتج الأمريكي، وإقبال بديل علي المنتج التركي، ثم تحويل طاقة الغضب لطاقة عمل جبارة تنقل البلاد لمصاف الدول المنتجة في تحديات لا يقويها سوى الثقة الكاملة في القيادة الموجودة.

2- يجب على العالم أن ينتبه لخطورة البلطجة والهيمنة الأمريكية عليه، ومن ثم عليه التوجه في تحالفات كبرى لإنشاء نظام عالمي جديد يحدث عملية التوازن المطلوبة لمنع تلك الممارسات، التي لا تمثل خطورة على تركيا وحدها، وإنما تجعله صيدا سهلا لذلك الكيان الغاشم بقيادته غير المتزنة.

ورغم خطورة الوضع الذي تمر به تركيا رئاسة وشعبا، إلا أن القدر يحسم الأمر في النهاية للمجتهدين والعاملين والراغبين في تغيير أوضاعهم للأفضل، ونحسب أنها منتصرة بإذن الله. وهنا نستحضر قول الله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ".