كتاب عربي 21

النقاب "سلاح سياسي"؟

1300x600
تم الشروع في منع المنقبات من دخول "مقرات الإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية"، وعلل المرسوم الحكومي الذي أصدره يوسف الشاهد هذا القرار بـ"أسباب أمنية".

يبدو أن التحقيقات السرية التي تمت مؤخرا على إثر الهجمات الإرهابية الأخيرة؛ قد غذت المخاوف حول احتمال استعمال منقبات في عمليات انتحارية جديدة. فالتنظيمات العنيفة أصبحت لا تتردد في اللجوء إلى مختلف الوسائل والحيل التي يفترض أصحابها أنها تساعد على ارتباك الأجهزة الأمنية، وتحقيق أكثر قدر من الإصابات في صفوف الشرطة والجيش. وقد سبق لهذه الجماعات أن دفعت بفتاة قبل أشهر قليلة لتقوم بتفجير نفسها بشارع الحبيب بورقيبة، كما تم اكتشاف 12 كلغ من المتفجرات مدفونة بصحن مسجد بأحد الأحياء الشعبية قبل أيام فقط.

فاجأ منع المنقبات من دخول المؤسسات العمومية، بما في ذلك المستشفيات والفضاءات التجارية، الكثيرين، وأعاد الجدل حول علاقة ذلك بالحرية الفردية، وخاصة حرية المعتقد، لكن أغلبية التونسيين والتونسيات تقبّلوا القرار بدون تردد، خاصة عندما أدركوا أن الدوافع الأمنية هب التي فرضت ذلك. حتى حركة النهضة التي كانت بعد الثورة ضد المساس بحرية اللباس، عبّرت عن تأييدها للقرار وتفهمها للأسباب التي تقف وراءه. فالحركة كانت منذ الثورة (ولا تزال) شريكة في الحكم، وأصبح العديد من كوادرها يدركون مفهوم الدولة والأخطار التي تهددها في ظل تنامي ظاهرة الإرهاب، فهم لو اعترضوا على بعض الإجراءات الأمنية، ثم ترتب عن ذلك حصول ثغرات استغلها إرهابيون، كيف سيكون وضعهم أمام الرأي العام.

تعتبر مسألة النقاب من الإشكاليات التي ارتبط ظهورها في المجتمع التونسي بولادة الحركة الإسلامية، مع أن هذه الحركة لم تأمر به ولم تتحمس له في أي محطة من محطات نموها وتطورها، رغم إقرار الشيخ الغنوشي بأن الحركة بدأت سلفية. فمسؤوليتها تقف عند دفاعها عن الحجاب الذي لا يشمل تغطية الوجه، لكن الذي حصل أن وجود الحركة دعم بقوة نزعة المحافظة في مجتمع انخرط بقوة في مسار التحديث الثقافي والاجتماعي، وكان خطاب العديد من قادتها مناهضا لحقوق المرأة ومعترضا على انخراطها في الشأن العام. فتغيير الحركة لخطابها حول النساء جاء متأخرا، لهذا تمكنت بقية التيارات غير الإخوانية، مثل السلفيين بمختلف اتجاهاتهم، من اختراق الساحة التونسية، وقاموا بترويج النقاب المصاحب للأزياء السوداء أو ذات الألوان الداكنة بمختلف أشكالها، خاصة الوافدة بالخصوص من أفغانستان، وهو ما أثار جدلا مجتمعيا لا يزال متواصلا حتى اليوم.

بعد الثورة توفرت لأول مرة فرصة للتيارات السلفية في تونس، بما في ذلك التي يطلقون عليها "السلفية الجهادية". لقد غادر رموزها السجون، وسيطروا على عدد من المساجد، واخترقوا الفضاء العام، ودخلوا الجامعات والمدارس الثانوية، واستضافوا دعاة السلفية من كل مكان، ومكنوهم من الخطابة في الملاعب والساحات، وأقاموا أنماطا من المدارس القرآنية وروضات الأطفال وفق مقاييسهم، ونصّبوا ما سموه بـ"الخيام الدعوية"، واقتحموا المجال الإعلامي للتأثير على الرأي العام. كما تم استقبال بعض الممثلين عنهم في القصر الرئاسي، واستفاد السلفيون بالخصوص من الموقف الرخو لحركة النهضة، وحرصها على استيعابهم سياسيا وتجنب الاصطدام بهم.

في خضم هذه الأنشطة المتعددة، روج السلفيون لنموذج المرأة المنقبة، وحاولوا أن يجعلوا منها مقياس التدين الصحيح، مقابل الحجاب الذي كاد أن يصبح عندهم الاستثناء، وهو ما أعطى انطباعا بأن هؤلاء كانوا يهدفون إلى "أسلمة المجتمع التونسي" على طريقتهم. لكن جزءا من هذه المجموعات السلفية لم تدرك أهمية الاختراقات التي حققتها داخل الفضاء العام، وظنت بأنها بلغت من القوة والامتداد للشروع في الانتقال من الدعوة إلى مرحلة "التميكن"، فشرعت في إدخال السلاح إلى تونس عبر ليبيا والجزائر، بهدف الاستعداد لقلب نظام الحكم والانفراد بالقيادة السياسية، وفق تنظيم القاعدة في البداية، قبل أن يفرض داعش نفسه على معظم أبناء التيار السلفي في تونس.

كان ذلك الخطأ القاتل الذي ارتكبه السلفيون، واستغلته الأجهزة الأمنية لإطلاق صيحة فزع، ليبدأ العد التنازلي في اتجاه محاصرة هذه الظاهرة الخطيرة؛ عبر معركة طويلة لا تزال حيثياتها مستمرة حتى اليوم.

في هذا السياق، أصبح "النقاب" محل شك، ليس فقط من قبل الجهات الأمنية، ولكن أيضا من قبل جزء واسع من المجتمع التونسي. ورغم أن المنقبات لسن بالضرورة حاملات لأحزمة ناسفة كما يحلو للبعض أن يصفهن، إلا أن النقاب يمكن أن يستعمل لتهديد أمن الأفراد والمساس من الأمن القومي.

هناك من يطالب اليوم بمنع النقاب أيضا في الفضاء العام. قد تكون مثل هذه الدعوات سابقة لأوانها، إلى جانب كونها في حاجة إلى النظر إليها من زاوية الحريات الفردية. لكن، بعد منع دخول المنقبات المؤسسات العمومية دون أن يثير ذلك اعتراض مجتمعيا، أصبح المناخ ملائما للتفكير في مدى شرعية هذا الزي، وتأثيراته المتعددة والسلبية على شخصية المرأة ودورها داخل الفضاء الأسري وخارجه، والتفكير جديا حول تحول هذا الشكل بالذات من اللباس إلى مقياس للتقرب من الله، رغم أن النصوص الدينية تعطي مجالا أكثر تحررا وأوسع تأويلا. ألا يدل ذلك على أن النقاب تحول في الأخير إلى "سلاح سياسي" لإضعاف الدولة وتهديد الأمن القومي؟