كتاب عربي 21

مُقارَبةُ مُتلازِمة السُّلُطات والمُعَارَضات

1300x600

مثلما يقترن الوجود والعدم، والضد بضده، تقترن السلطات بالمعارضات في الحياة السياسية المعاصرة.. وكل منهما تنقض معمار الأخرى والذرائع شتى، ويتجدد السجال ويتحول إلى صراع في الأغلب الأعم، وتراق بسببه الدماء، وتدور تلك الدورة وتتجدد بين شد وجذب، سلب وإيجاب، تتكرر لكنها لا تتوقف.. تَخمُد ولا تهمد، فتلك متلازمة الحياة السياسية العصرية.. 

المعارضة ملازمة للسلطة.. وتلك حالة قديمة متجددة في آمادها الضيقة والواسعة، منذ بدئية التعارض بين رأي ورأي، إرادة وإرادة، فعل ورد فعل، اختيار وآخر مُضاد. وحين نقارب السياسة في مظاهرها وسجالاتها وصراعاتها، نجدها غابة بوحوشها وقوانينها ومواصفاتها وأفعال الفاعلين فيها. ومتلازمة السلطات والمعارضات تكاد تكون مُعضِلة مستعصية الحل في الكثير من بلدان العالم، لا سيما حينما تدخل وتدخل الشعوب في صراعات دموية ـ تدميرية، وتضعها في مناخ فوضى وضعف ومعاناة يستدعي التدخل الخارجي أو يستعديه.. الأمر الذي يفضي إلى تمزق أوطان واستعمارها، وإشقاء شعوب وتشريدها، واستفحال تبعية وفساد، وغياب للسيادة والكرامة والقدرة على حماية المصالح والوجود. 

وقد تكون مقاربة العلاقة بين السلطات والمعارضات مفيدة أو ضرورية في أوقات الصراع بينها، ذاك الذي يُعشي العقول والرؤى، ويعمي الأبصار والبصائر.

 

متلازمة السلطات والمعارضات تكاد تكون مُعضِلة مستعصية الحل في الكثير من بلدان العالم، لا سيما حينما تدخل وتدخل الشعوب في صراعات دموية ـ تدميرية


وفي مقاربتنا هذه، ننشُدُ أن نركِّز على الغايات، ونعلي شأن الأهداف والمصالح العليا للوطن والشعب والدولة التي ينبغي أن تضعها السلطات والمعارضات فوق الخلاف والتنازع، وأن تخدمها بإخلاص واقتدار ووعي واحترام.. وأن تنبذ في علاقاتها الأساليبَ والوسائل والأدوات التي تضر بتلك الأهداف والمصالح، وتجعل الأطراف كلها مُنْهَكَة، والعملية السياسية مُنْهِكة ومُهْلِكَة للشعب والوطن.

ونبدأ تلك المقاربة بالإشارة إلى ما يبدو أنه واقع الحال.. حيث المعارضة السياسية محاولة دائبة للوصول إلى السلطة بأية وسيلة، والسلطة قوة حاكمة متحكمة متشبثة بالسلطة، وتقوم بمثل ما تقوم به المعارضة حيالها لتبقى في السلطة بأية وسيلة.

وفي سياق المقاربة نسأل أسئلة ونطرح تساؤلات نستمدها من الواقع ومن الممارسات السياسية، لا سيما في بلدان وطننا العربي الكبير.. مبتدئين بـ:

1 ـ هل المعارضة ممارسة بدوافع وطنية وأخلاقية خالصة لكشف أخطاء السلطة الحاكمة وممارساتها وتجاوزها للدستور والقوانين، وتبيان عجزها أو فسادها، جزئياً أو كلياً، حرصاً على نظافة المسؤولية واقتدار أهلها، وعلى المصالح العليا للوطن والشعب، وخدمة المواطن.. وأن من واجبها تعرية فساد السلطة بكل الوسائل المؤدية إلى المحاكمة، بغية استبدال الفاسد بصالح، والفاشل بناجح، أياً كان الشخص وأياً كان موقعه.. خدمة للعدل والحقيقة والقانون، ولمصلحة الوطن الشعب؟! أم أنها تفعل ما تفعل وتتذرع بما تتذرع به لأغراض لا تخلو من أمراض، وحينما تنجح تركب موجة السلطة ولا تلبث أن تغرق فيما نهت عنه وعارضت السلطة بسببه؟!
 
2 ـ هل المعارضة سعي مسؤول "قانونياً، وأخلاقياً، واجتماعياً وسياسياً"، للنهوض بالدولة والمجتمع، وتطبيق القانون، وكشف التغوّل والفساد.. وهي منافسة شريفة لخدمة العدل والحق والإنسان "حرية وحقوقاً وكرامة".. تلتقي مع السلطة القائمة إن هي أصابت وتعارضها إن هي أضرت بالوطن والشعب وعرَّضتهما للخطر، وتعمل باجتهاد وكفاءة واحترام للدستور والقانون وللعقل والضمير، على القيام بدور سياسي وطني وأخلاقي، يقدم الصالح والنافع من الأفكار والخطط والبرامج والمواقف والخدمات والأعمال.. فإذا أدت السلطة ذلك فقد تحقق الهدف ووجب الاعتراف بما أُنجز، وتكامل الجهود والعلاقات بموضوعية وحكمة؟! أم أن ذلك مما لا يأبه به المعارضون ولا يضعونه قيد المحاكمة المنطقية.. لأن مفهوم المعارضة المنتشر يدخُل في باب المنازعة والمصارعة مع السطلة بهدف الوصول إلى السلطة وانتزاعها ممن هي في أيديهم بأية وسيلة.. وهل رد السلطة على أفعال المعارضة هو دفاع عن الموقع والموقف، والقيام بكل ما من شأنه البقاء.. واستباحة التنكيل والقمع.. والغاية عند كل منهما تبرر الوسيلة؟!

 

هل "السلْطات والمعارضات"، في واقع الحال ومن خلال المتابعات والمداولات، محكومة بالعقل والمنطق، وبروح العدل ونظافة الأيدي والممارسات، وبإرادة الشعب ونصوص القوانين ومصلحة الوطن؟


3 ـ هل العلاقة بين السلطة والمعارضة هي تنافس شريف وتعاون رفيع المستوى بين طرفين، واحدٌ في السلطة "حاكمٌ" ذو آراء ورؤى يغوص في واقع معيّن، وواحدٌ خارجها يعارض "الحاكم" برُؤى وآراء ومنطق ووقائع يستمدها من الواقع.. وسجال بين سياسات وتوجهات وشخصيات وكفاءات وقدرات وخبرات، محكومة كلها بدستور وقوانين مرعية الاحترام، وبأخلاق تعامل ومنهجية وموضوعية تحكم الأطراف كافة، حيث تبقى العلاقة محكومة بقوانين ومعايير وقيم، وبالمصالح العليا للشعب والوطن.. ويتكامل أداء الأطراف في كل المجالات… ويجهد كل طرف ويجهتد من أجل تقديم أفضل ظروف العيش والأمن والخدمة للناس وأعلى مستويات التربية والتعليم والعلم والثقافة والخدمات والإنتاج.. من أجل النهوض بالإنسان، وتهيئة المناخ والإمكانيات لتنشئة الأجيال وضمان مستقبل أفضل لها.. من غير هبوط في العلاقات والتفاعلات إلى درك متدن يستبيح المَحرَّم، ويفضي إلى صراع مدمر ومفتوح على كل الاحتمالات؟ 

أم هي علاقة تجعل كل ما سبقت الإشارة إليه من أهداف ومهام عُرضة لنزوات أشخاص وتنظيمات همها الأول والأخير أن تحكم وتتحكم وتكسب وتفعل ما تشاء؟!
 
4 ـ هل "السلْطات والمعارضات"، في واقع الحال ومن خلال المتابعات والمداولات، محكومة بالعقل والمنطق، وبروح العدل ونظافة الأيدي والممارسات، وبإرادة الشعب ونصوص القوانين ومصلحة الوطن؟ أم أنها احتطاب بليل في غابة السياسة التي تعلن مشارقها ومغاربها أنها غير محكومة بالأخلاق بل ونابذة لها؟ ومن ثم فكل منهما تضلل الناس وتقودهم لما يحقق غاياتها وغايات المتحكمين بها.. وكل منهما تشوه العقول، وتفسد الضمائر، وتضبب الرؤى، وتغيب الحقائق، وتستبيح كل قول وفعل، لجعل الناس شركاء في تشويه هذا الطرف أو ذاك، هذا الشخص أو ذاك، بهدف إسقاطه وقتله معنوياً وحتى جسدياً.. من أجل الوصول إلى" موقع السلطة الحكم والتحكم"، ولإشباع شهوة التسلط، وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية، "شخصية وللشركاء، سواء أكانوا من السلطويين أو المعارضين"، بصرف النظر عن القوانين والأخلاق والقيم والأساليب والأدوات، ومن دون أدنى اهتمام بالمصالح العليا للوطن وبمعاناة الشعب وبكل ما يبقي الدولة ويبنيها ويقويها.
  
تلك أسئلة وتساؤلات من المفيد مقاربتها والتوقف عندها ملياً، في ظل ما نراه اليوم من تغوُّلٍ سياسي، وصراع وحشي على السلطة، واستباحة تامة لكل الأساليب والممارسات والقيم، واستقواء بالقوى الاستعمارية، واستثمار في الفساد والإفساد المُهلكين، وتبعية للأعداء أو استدعاء لهم ليكونوا عوناً لهذا الطرف أو ذاك.. وتكون النتيجة إراقة الدماء، والفتك بالشعب، وتدمير الدولة، وإعادة الاستعمار إلى أوطان قدمت أرواحاً ودماءً وتضحيات جسام، ودفعت أثماناً باهظة طوال قرون من الزمن، لتصل إلى الاستقلال والتحرير والحرية وشيء من الكرامة.