مقالات مختارة

تاريخ واشنطن من السياسة فوق الواقعية في الشرق الأوسط

1300x600

للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تاريخ طويل من تكرار نفس الأخطاء وتوقع نتائج مختلفة. ورغم أن كل إدارة جديدة تبعث آمالاً جديدة إلا أننا ما زلنا نرى نفس النتائج منذ عقود.
 
سياسة واشنطن الخارجية – التي كثيراً ما كانت تصاغ في سياق متاهات الهيمنة الأمريكية وتنافس القوى العظمى ومعادلات الحرب الباردة طوال القرن العشرين – تخففت من كل هذه الأعباء في الألفية الجديدة، ولكن النتائج مع ذلك لم تتغير.
 
ما فتئت السياسة الخارجية والمؤسسة الأمنية للولايات المتحدة تسعى لتحقيق المصالح في الشرق الأوسط وترتكب الأخطاء الجسيمة. وعلى مدى عقود ظلت الواقعية السياسية تتصرف كمنقذ من هذه القرارات التعيسة، وتدفع الولايات المتحدة نحو دعم إسرائيل بشكل مطلق وغير مشروط، وتقديم بوليصة تأمين للمستبدين، واحتلال أفغانستان والعراق، والتخوف من إيران وفي نفس الوقت تسليمها العراق وسوريا، والقائمة تطول.
 
قضية خاشقجي
 
مرت السنون، وبعد عقدين، أفاق صناع السياسة في واشنطن أخيراً وأدركوا أن ما يحتاجون للتركيز عليه في الحقيقة هو مواجهة "إكراه" الصين و"رعونة" روسيا. ورغم أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كانت في الظاهر سياسة واقعية إلا أنها في الحقيقة كانت لا شيء سوى فوق الواقعية. ومع ذلك، تنزع واشنطن نحو العودة إلى نفس السياسات، ولا أدل على ذلك من قرار الرئيس جو بايدن المتعلق بقضية جمال خاشقجي.
 
كان خاشقجي اختباراً للإدارة الأمريكية أخفقت فيه، تماماً كما أخفقت إدارة أوباما وبايدن في العديد من الجبهات من قبل. كان من أهم ما ميز إدارة أوباما وبايدن سجلها السيء في التعامل مع الديمقراطية في الشرق الأوسط على الرغم من الكم الهائل من الحديث الليبرالي.
 
لم تترجم خطابات السياسة الخارجية الأمريكية إلى فعل في الشرق الأوسط. ففي سنته الأولى داخل البيت الأبيض، قطع أوباما على نفسه في القاهرة سلسلة طويلة من الوعود، وتعهد بالترحيب بكافة الحكومات المنتخبة والسلمية. ولكن حينما أطيح بأول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر في انقلاب دموي، رفض أوباما حتى وصف ما جرى بالانقلاب.
 
وظل هذا النمط يتكرر. ومن ذلك تهديد أوباما في عام 2012 بأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا كان خطاً أحمر. بعد عام بالضبط فتك نظام الأسد بالمئات من الناس باستخدام غاز السارين، ولم يحرك أوباما ساكناً. بل لقد دعم حكومة المالكي الذي سود وجه العراق، ثم أعطى إيران الضوء الأخضر حتى تنقذ نظام الأسد، الأمر الذي كلف مئات الآلاف من الأرواح في سوريا.
 
ولما اقتربت فترة حكمه من نهايتها، عندما واجهت تركيا محاولة انقلابية دموية، لم يطل أوباما برأسه ليدافع عن الديمقراطية، بل ظل بدلاً من ذلك ينتظر ليرى ما الذي ستتمخض عنه المحاولة. باختصار، حيثما كانت الديمقراطية مهمة في الشرق الأوسط، كانت إدارة أوباما وبايدن إما مشغولة في دعم الحكومات المعادية للديمقراطية أو مترددة جداً في الدفاع عنها. وكانت أشد تجليات ذلك مأساوية أثناء سنوات الربيع العربي، حينما شهدت منطقة الشرق الأوسط أول حراك شعبي مؤيد للديمقراطية بحق خلال قرن من الزمن.
 
آمال عريضة
 
بعد أربعة أعوام كارثية مع الرئيس السابق دونالد ترامب، انتعشت الآمال من جديد بوصول إدارة بايدن إلى الحكم، ليس بين الحكومات وإنما بين الشعوب في المنطقة. فقد كانت مقاربة ترامب تجاه المنطقة صفعة سافرة لكل ما تبقى من آمال بالديمقراطية. وبعد إخفاقه البائس في التعامل مع ملف خاشقجي، جاء بايدن ليسير على نهجه، متجاهلاً الفرصة التي سنحت له حتى يدافع عن الديمقراطية بسماحه لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالإفلات من كل مساءلة ومحاسبة.
 
لوحده تحميل محمد بن سلمان المسؤولية عن قتل جمال خاشقجي لا قيمة له، وذلك لأن ولي العهد لم يكن هو وحده الذي قتل الصحفي البريء، وإنما المنظومة الإقليمية التي حافظت عليها واشنطن لسنين، وذلك أن تلك المنظومة هي التي قضت على كل أمل في إحداث تغيير نحو الأفضل في المنطقة. إدانة محمد بن سلمان كانت ستعني كل شيء ولا شيء في نفس الوقت.
 
ولو أن الزعيم السعودي عوقب على فعلته، لسرى فعل الدومينو في المنطقة كلها، من مصر إلى إسرائيل، ولقلب الأمور رأساً على عقب. ولكن ما كانت الإدانة لتعني شيئاً بدون نفض الأمر الواقع في المنطقة. إلا أن من السذاجة أن يتوقع المرء من إدارة حولت الربيع العربي إلى شتاء أن تعمل الآن على تغيير النظام الإقليمي العتيق.
 
ومع ذلك فاجأ تحرك بايدن الكثيرين، رغم أنه جاء منسجماً مع سجله الطويل. فمن حكومة المالكي إلى نظام الأسد، ومن طهران إلى تل أبيب، انتهجت إدارة أوباما وبايدن نفس الممارسة: الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بينما تتصرف ضدهما. قد يسمى هذا النفاق واقعية سياسية، ولكنه في حقيقة الأمر دائرة مغلقة من السياسة فوق الواقعية. سوف يستمر محمد بن سلمان وكل من هم على شاكلته في أرجاء المنطقة في اضطهاد الجماهير، بينما يخسر النشطاء المعارك، الواحدة تلو الأخرى، في نضالهم من أجل الديمقراطية.
 
سياسات قصيرة النظر
 
قبل عام نشرت مجلة فورين أفيرز (شؤون خارجية) مقالاً لبايدن عنوانه "لماذا يتوجب على أمريكا أن تقود من جديد؟"، شرح فيه بايدن رؤية سياسته الخارجية. منذ ذلك الحين مثل القرار بشأن قضية خاشقجي مؤشراً على نمط القيادة الذي ستمارسه الولايات المتحدة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ما كان ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً. فبدون حدوث تغير في النظرة الوجودية وتحول في النموذج، سوف تظل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تراوح مكانها.
 
لا تقدم إدارة بايدن المجهزة بطاقم سياسة خارجية من عهد أوباما رؤية جديدة. فهذا الطاقم "الجديد" في أحسن الأحوال سيحقق ما يمكن أن يطلق عليه أوباما 2. ما بين 2009 و2017، مر الشرق الأوسط بكل أشكال المآسي البشرية، ولن تقدم سياسات بايدن قصيرة النظر الكثير في سبيل التخفيف من حالة الاضطراب التي تعيشها المنطقة.
 
تشبه دائرة الأمن القومي في إدارة بايدن ذلك الفريق الذي عمل مع بوش بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والذي رآه الكثيرون في البداية مكسباً عظيماً. كان ذلك الفريق ممثلاً للرؤية الجمهورية الصقورية الحازمة، ولكن لم يكن لديه من الخبرات ما يؤهله للتمييز بين الواقعية السياسية والطموحات. كان يشتمل على أسماء أثبتت نفسها، بعض المخضرمين ممن تعلموا دروساً من الأخطاء المأساوية التي ارتكبت في حرب الخليج عام 1991، مقاربات غير متجانسة مع الحلفاء، والتعامل مع الشرق الأوسط من وجهة نظر اختزالية.
 
لقد توقعوا أن يديروا الأمور ويطبقوا السياسات بكل ثقة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لا أن يقفزوا من الحافة إلى الهاوية. الذي حصل بدلاً من ذلك هو أن هذا الفريق المجرب، والذي يزعم بأنه كان يتحلى بالحكمة، جر الولايات المتحدة إلى حربين اثنتين، لم تقدر على الفرار منهما لعقدين من الزمن. ولكن كان الثمن الذي دفعه الشرق الأوسط نفسه أكبر بكثير.
 
يذكر فريق السياسة الخارجية والأمن القومي في إدارة بايدن بعهد بوش، إذ أن مقاربته تجاه القضايا العالمية وقراءته للشرق الأوسط تكاد تكون مطابقة تماماً، بما لديه من أفكار محسومة وحلول مختصرة للأزمات التي تعاني منها المنطقة. يتجاهلون قوى الطرد المركزي، والتداعيات الإقليمية وتحليلات الآثار المتوقعة. مثل هذه الشخصيات لا يبدو أنها تدرك التكاليف الحقيقية لربط السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط. ومن رحم ذلك الوهم ولدت نقاط واشنطن العمياء وترعرعت.
 
مطلب الديمقراطية
 
على الرغم من كل مآزقه، تولى بايدن رئاسة الولايات المتحدة في فترة من التألق. تلك كانت المرة الأولى بعد سنوات طويلة التي تتركز فيها المطالب الواسعة بترسيخ الديمقراطية وتمكين المؤسسات الدولية. فبعد الدمار الذي سببته الشعبوية داخل الولايات المتحدة وحول العالم برزت حاجة ماسة إلى الترشيد.
 
في الشرق الأوسط، زاد خلال العقد الماضي أكثر من أي وقت مضى البحث وكذلك الحاجة إلى النظام والاستقرار والديمقراطية. بإمكان بايدن أن يركب الموجة مستفيداً من الطاقة الهائلة لو رغب في ذلك – ولكن ذلك سيتطلب منه تحدي الوضع القائم وليس تمكينه وتعزيزه. فتأثير كوفيد 19 متعدد الجوانب وحده يوفر الكثير من الفرص لإحداث تغير بنيوي غير مسبوق على المستوى العالمي.
 
والسؤال بالنسبة لبايدن هو ما إذا كان سيواجه هذه المشاكل من خلال طمس بعض نقاط العمى وتوسيع نطاق رؤيته. كانت أولى التحركات الرديئة للإدارة هي المتعلقة بملف خاشقجي. منذ سنوات والولايات المتحدة تتعامل مع فوق الواقعية السياسية كما لو كان واقعية سياسية، وخاصة في الشرق الأوسط. توفر الحقبة الجديدة فرصة نادرة لرؤية تنبثق عن واقعية سياسية حقيقية.
 
لو سعت إدارة بايدن إلى تكرار حقبة أوباما بدلاً من اغتنام الفرصة لإحداث تغيير، فالنتيجة المحتملة معروفة مسبقاً. على الأقل يوجد لدى الشعوب في الشرق الأوسط ما يكفي من الحكمة لمعرفة أنه "لا يوجد رجل يخطو مرتين في نفس النهر، فلا النهر نفس النهر، ولا هو نفس ذاك الرجل".

 

(عن ميدل إيست آي)