أن يكون للاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران انعكاسات على ملفات المنطقة، فهذا أمر طبيعي، فالاتفاق لا ينحصر في جوهره على البعد النووي والأسلحة الباليستية فحسب، بل يشمل مسائل أخرى مثل دور طهران في جغرافية المنطقة، أو الأصح التهديد الجغرافي الإيراني الذي لا يقل أهمية عن التهديد النووي والصاروخي.
ومهما كانت طبيعة التفاهمات التي ستحصل لاحقا بين إيران والولايات المتحدة، فإنها تتباين وتتقارب المصالح الاستراتيجية للدولتين في الساحات الثلاث: العراق، اليمن، سوريا.
العراق
تولي الولايات المتحدة أولوية قصوى للساحة العراقية، ليس بسبب مخزوناتها النفطية وقربها من دول الخليج فقط، بل أيضا لأن ما يجري في العراق هو امتداد مباشر للسياسة الأمريكية في هذا البلد.
الهدف الأمريكي واضح هنا، احتواء حلفاء طهران وإضعافهم للخروج من المشهد العسكري، تمهيدا لإعادة بناء الدولة سياسيا واقتصاديا، ولمنع استخدام طهران للمليشيات العراقية في ساحات المنطقة، لكن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها دون تفاهم مع أصحاب العمائم في طهران، التي تشكل العراق عندهم ساحة استراتيجية متقدمة لا يمكن التنازل عنها.
تكمن العقدة في العراق في إيجاد حل لمليشيات "الحشد الشعبي" المتعاظمة، ولما كانت واشنطن قد اتخذت قرارا بعدم تكرار تجربة عام 2003، أي التدخل العسكري المباشر، ولما كان أي حل عسكري مباشر ضد الحشد سيؤدي إلى إعادة الحرب الأهلية في العراق، فإن إدارة بايدن قررت ترك مسألة حل المليشيات للحكومة العراقية ضمن خطة بعيدة المدى.
بخلاف الساحتين اليمنية والسورية، تبدو الساحة العراقية أكثر تعقيدا بالنسبة للدولتين: بالنسبة للولايات المتحدة يكمن الهدف الاستراتيجي في تحويل العراق إلى دولة مستقرة ديمقراطية إلى حد ما ومعتدلة، لا تكون موضع إشكالي في المنطقة، ولا تتبع للمحور الإيراني في نفس الوقت، وهذا ما يفسر طبيعة الردود العسكرية الأمريكية على هجمات المليشيات الإيرانية للقواعد الأميركية في العراق.
أما بالنسبة للإيرانيين، فإن العراق يبقى حافلا في الذاكرة القريبة والبعيدة لديهم، والتنازل عنه يشكل أول خرق في العمق الاستراتيجي، ولذلك، لا تظهر في الأفق طبيعة التفاهم الأمريكي الإيراني في هذا البلد.
اليمن
لا يعتبر اليمن ضمن المجال الحيوي الاستراتيجي لكل من إيران والولايات المتحدة، فهو مجرد ساحة متقدمة للصراع، تمكن الإيراني من خلالها من مناكفة السعودية وتهديدها، بمعنى أن المصالح الإيرانية في اليمن هي مصالح مؤقتة لا طويلة الأمد، ويمكن الاستغناء عنها أو على الأقل التوصل إلى تفاهمات حيالها ضمن صفقة كبرى تكون السعودية جزءا منها.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن اليمن مثالا على الفشل الدولي في استدراك منع حصول مجاعة إنسانية، وفشله في منع عمليات القتل المتزايدة، ومن هنا، فإن البعد الإنساني هو المحرك الرئيسي لواشنطن.
لا مانع للإيرانيين من بقاء سيطرة الولايات المتحدة وحليفها المحلي (قوات سوريا الديمقراطية) على مناطق واسعة ومهمة من سوريا، طالما أن واشنطن تعترف بالمصالح العليا لإيران ولا تهدد حضورها الاستراتيجي في سوريا.
وأمام فشل السعودية في تحقيق اختراق كبير في جدار الأزمة اليمنية، وجدت إدارة بايدن أنها مضطرة لدق أبواب طهران من أجل التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب في اليمن، ويحفظ للحوثيين مكانتهم، ويحفظ للسعودية ماء وجههم.
وكان هذا واضحا منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فقد أعلنت إدارته أنها لن تدعم عمليات التحالف العسكرية في اليمن، وعينت ممثلين خاصين للمساعدة على إنهاء الصراع.
سوريا
تبدو الساحة السورية أكثر الساحات الثلاثة سهولة، فهي ليست محل اهتمام أميركي، بعدما اقتصر تركيز واشنطن على البعد الإنساني وعلى استمرار العقوبات الاقتصادية، مع المحافظة على التواجد الأمريكي شمال غربي سوريا.
بمعنى أن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا تقوم على استمرار وديمومة الستاتيكو العسكري القائم إلى أجل غير مسمى، كأداة ضغط على النظام السوري وروسيا، من دون أن تمتلك واشنطن أدوات الحل، أو أن يكون لديها الرغبة في امتلاك خارطة طريق للحل السياسي.
وأغلب الظن أن الساحة السورية ستترك للروس والإيرانيين، في حدود الخارطة الاستراتيجية القائمة: لا مانع للولايات المتحدة من التواجد الإيراني في سوريا، ولا مانع لديها من تثبيت إيران لتواجدها العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، كل ما يهم الإدارات الأمريكية هو أن تبقى إيران ضمن السقف الاستراتيجي الذي لا يهدد المصالح الإسرائيلية ومصالح حلفاء الولايات المتحدة.
وقد تركت واشنطن مسألة خروج إيران على الخط الأحمر إلى إسرائيل، فهي الكفيلة بردع إيران عسكريا في سوريا.
ولا مانع للإيرانيين من بقاء سيطرة الولايات المتحدة وحليفها المحلي (قوات سوريا الديمقراطية) على مناطق واسعة ومهمة من سوريا، طالما أن واشنطن تعترف بالمصالح العليا لإيران ولا تهدد حضورها الاستراتيجي في سوريا.
*كاتب وإعلامي سوري
خيارات الكيان الإسرائيلي للتعامل مع الصين
أنقرة والقاهرة مسيرة التنافس والتعاون