يعتقد أن البقر تشابه علينا! ذلك أن مشكلته في هذا التصور من أنه لكي يكون رئيساً، فلا بد أن يفهم في كل شيء، ويفتي في كل تخصص، ويتحدث في كل موضوع!
والمشكلة الأعمق في أنه يعتقد في ذاته أن لديه قدرات خاصة، تفوق قدرات عامة البشر وخاصتهم، وأنه طبيب يشير إليه العالم بالبنان كعبقري لحل المشاكل ووضع الحلول للأزمات. وليس غريباً -والحال كذلك- أن يشير في أكثر من مرة إلى سيدنا سليمان عليه السلام، بعبارة بذاتها في واقعة بعينها، "ففهمناها سليمان". وهذا الفهم الإلهي هو خاص بواقعة التحكيم في الحرث، وليس ثابتاً أن هذا المدد الإلهي كان مصاحباً لسليمان في كل أمر وكل وقت، لكن صاحبهم يوحي بأنه يوحى إليه، لذا فلا أحد يتكلم غيره، وإذا أفتى ففتواه هي الصحيحة، من أول الحديث عن تجديد
الخطاب الديني، إلى تربية الماشية، والأكثر عمقاً هنا يتمثل في هيمنة سلوك السمسار الذي يريد أن يستفيد من كل شيء!
في ظهوره الأخير لم يكن على ما يرام، مع أنه
يفتتح مشروعاً يبدو من حيث الدعاية أنه عملاق، حيث مخططه لزراعة مليون وخمسين ألف فدانا، ورغم أن النظرة الواقعية
لعموم مشروعاته أنها تشبه قول ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، إلا أنه في مرات سابقة كان يظهر السعادة والحبور ولو ليوم واحد، تماماً كما حدث في يوم المؤتمر الاقتصادي، وكذلك في افتتاح الترعة الجديدة بقناة السويس، لكن من الواضح أن شعوره بالملل صار مضاعفاً فلم يعد قادراً على الظهور بشكل احتفالي، وهي حالة من الملل متبادلة، فقد مل خصومه وأنصاره على حد سواء، وانتقلت عدوى الملل اليه!
بدا كما لو كان قد ظهر في هذا اليوم رغم أنفه، بعد غياب دام تسعة عشر يوماً، وهو الغياب الطويل نسبياً بالنسبة له، لأنه يعتبر أن حضوره على الشاشة هو إثبات لأنه رئيس، وأن الغياب قد يؤثر في شرعيته
وبدا كما لو كان قد ظهر في هذا اليوم رغم أنفه، بعد غياب دام تسعة عشر يوماً، وهو الغياب الطويل نسبياً بالنسبة له، لأنه يعتبر أن حضوره على الشاشة هو إثبات لأنه رئيس، وأن الغياب قد يؤثر في شرعيته، وبدا وقد جاء مصحوباً بأمرين، الأول: هو هذا الظهور لنجل مبارك مرتين في يومين متتاليين، الأول وهو
يقدم العزاء لمحمد بن زايد في وفاة شقيقه، والثاني وهو يفتعل مشهدا للظهور عبر منصات التواصل بإعلان براءة الأسرة من المنسوب إليها في جرائم
الفساد المالي، وهو بدا حديثه من حيث الشكل كما لو كان خطاباً رئاسياً، تقبله البعض -لهذا- بقبول حسن، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه. وهناك من يقول إن التسجيل تم في الإمارات، وهو أمر لو صح لكانت له دلالته الأكثر أهمية، لكن لا أحد ينفي ولا أحد يؤكد ذلك!
الأمر الثاني، هو ما وصفه هو بالخوض في الأعراض، ولم يعد سراً أنه يقصد شخصية بعينها؛ كندية من أصول مصرية تخوض في سيرته، وهو المسلك الذي لا نوافق عليه ولا نجاريها فيه، احتراماً منا لأنفسنا وللقيم التي تربينا عليها قبل كل شيء. ولعله هنا أدرك أن خصومه السياسيين بكل تنويعاتهم هم الأكثر نبلاً، وإذا كان قد تحدث عن عقاب الله لمن يظلمه في هذا الجانب، فينبغي أن يعلم أنها بضاعتهم ردت إليهم، فأبواقه الإعلامية ولجانه الإلكترونية استباحت الأعراض، ومارست التلفيق، فليس هو من يتحدث بلسان الواعظ في هذا الموضوع!
تجارة الأبقار المطورة:
وإذ شرّق وغرّب في هذا اللقاء، فقد كان مما يستلفت النظر هو هذا التصور القائم على غير أساس من أنه يستطيع النهوض بمستوى مليوني أسرة، إن استبدل أبقاراً "مطورة" بأبقار "غير مطورة"، وإذا أحسنا الظن به يمكننا إرجاع هذا إلى افتعال الوعي بأمور لم يدرسها جيداً، ولو جلس مع فلاح وناقشه في ذلك، لأدرك على الفور أنه يذكره بسيرته الأولى، عندما قال إنه سيحل أزمة رغيف الخبز بتقسيمه إلى أربعة، وأزمة البطالة بعربات الخضار، ولاكتشف أنه يعيد اكتشاف العجلة!
كان مما يستلفت النظر هو هذا التصور القائم على غير أساس من أنه يستطيع النهوض بمستوى مليوني أسرة، إن استبدل أبقاراً "مطورة" بأبقار "غير مطورة"، وإذا أحسنا الظن به يمكننا إرجاع هذا إلى افتعال الوعي بأمور لم يدرسها جيداً
ففي بداية عهد مبارك تم الترويج للأبقار البديلة التي يتم استيرادها من هولندا، وهي أبقار "الفريزيان" التي لا تعاف أكلاً، وتأكل من خشاش الأرض، وتلتهم كل ما يقدم لها، وهي الأكثر لحماً والأوفر لبنا. ولم يكن هذا من اختصاص الخطاب الرئاسي، فقد تم الترويج لها عبر الوزارة المختصة، لكن التجربة ماتت في مهدها!
فإذا كان هناك نفر فليليون في الريف المصري أقدموا على خطوة اقتناء الأبقار "الفريزيان"، فقد كانت تجربة بقرة واحدة في كل منطقة تكفي لإنهاء المشروع، فلحومها لم تكن محببة لدى المصريين، وكذلك ألبانها، ومن أقدموا على التجربة قال إنها لحومها وألبانها "زفرة"، في مجتمع يعاف التعامل مع اللحوم المستوردة إلا مع ظروف الفقر المدقع، وهناك محافظات بأكملها لا تقبل على لحوم الماعز مثلاً، وهناك من يرفضون لحوم الجاموس!
هناك جانب لا يحيط به الحاكم المستشرق، وهو أن العلف سعره مرتفع، وعندما تكون شهية الأبقار المستورة مفتوحة على النحو المشار اليه، فان الفلاح لن يمكنه الانفاق عليها لكي يستفيد من سماتها من حيث وفرة اللبن، وكثرة اللحم!
ومنذ القدم، ونحن نعلم أن تربية الماشية ليست بالأمر المربح، إذا تم حساب الانفاق عليها بالمقارنة بثمنها وما تدره من ألبان، لكنها دائماً شيئاً لزوم الشيء، ويمكن فهم هذه الفلسفة بالنظر إلى تسمين العجول بغرض بيعها، فالفلاح الفصيح يقول إن المهم في النهاية هو أن مبلغا أنفقه "فرطا" وحصل عليه مجمداً، لأنه إذا قام بحساب ما أنفق أكلا ورعاية سيقف على أنها تجارة خاسرة، لكن الإنفاق تم بالتقسيط، ومن محاصيل الأرض، التي أيضاً صارت زراعتها تجارة خاسرة الآن مع ارتفاع أثمان الأسمدة والتي سترتفع كثيراً بعد التفريط في مصنع أبو قير للأسمدة!
وهناك أمر آخر، لم يضعه الجنرال في اعتباره، وهو أن مناخ مصر لا يصلح لتربية كثير من سلالات الأبقار المستوردة، بما يتطلبه ذلك من نفقات إضافية، إن توفرت فإن حظائر
الفلاحين ليست مؤهلة لاستخدام مبردات الهواء، مع الارتفاع الملحوظ في قيمة استهلاك الكهرباء. وبعض هذه السلالات تحتاج إلى رعاية طبية مضاعفة، لا سيما وأن ألمانيا مثلاً لا تبيع سوى الإناث فقط، ليحتاج التلقيح إلى طبيب بيطري!
سوء الظن:
ما سبق إذا افترضنا حسن النية في القائل، لكن سوء الظن الذي هو من حسن الفطن في التعامل مع القائل بحكم السوابق؛ سيدفعنا للقول بأنه ليس مضموناً القبول بالقاعدة التي وضعها، فتسليم الأبقار غير المطورة ابتداء لا يضمن وفاء وزارة الزراعة بتسليم الأبقار المطورة، لا سيما وأن المصريين يعيشون تجربة "مستريح أسوان"، الذي جمع قرابة النصف مليار جنيها من الناس، واشترى "مواشي" بأضعاف ثمنها على أمل التسديد بعد ثلاثة شهور، ولم يوف بما التزم به إلى أن تم إلقاء القبض عليه!
يحدث هذا في بلد يعاني هبوطاً في قيمة عملته المحلية، والمفروض ألا يقدم على الاستيراد إلا للضرورة القصوى توفيراً للنقد الأجنبي والعملة الصعبة، إلا إذا كان ما يفعله صاحبهم هو الدعاية لصالح المستوردين، وربما يشهد المستقبل احتكار الجيش لهذه التجارة
كما أنه وهو يقترح على وزير الزراعة سحب مليوني رأس ماشية عادية وتسليم الفلاحين مثلها أبقاراً مطورة، لم يتحدث عن فرق السعر ومن أين يسدده الفلاح. والأمر ليس اختراعاً، فالوزارة وقد دخلت على خط الاستيراد تواجه الركود الذي لديها بتحديد سعر أبقارها المستوردة بعشرين ألف جنيه للبقرة وتبيعها بالتقسيط المريح، مع إحجام الفلاحين عن الشراء وهم أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها، وليسوا بحاجة لمستشرق يسوق لديهم هذه البضاعة الراكدة، وباعتبار أن البقر تشابه عليهم!
إن اللافت هو في هذا الاستيراد الضخم للأبقار، حيث بلغ المدفوع في استيراد اللحوم والأبقار والألبان العام الماضي قرابة الثلاثة مليارات دولار، وأن مصر استوردت أبقاراً فقط خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021 بقيمة 22 مليون دولار، وأن استيراد الأبقار شهد ارتفاعاً ملحوظاً في كانون الأول/ ديسمبر الماضي حيث بلغت 21 مليون دولار، بينما كانت 4.3 مليون دولار في نفس الشهر من عام 2020، وذلك بحسب جهاز التعبئة والإحصاء!
يحدث هذا في بلد يعاني هبوطاً في قيمة عملته المحلية، والمفروض ألا يقدم على الاستيراد إلا للضرورة القصوى توفيراً للنقد الأجنبي والعملة الصعبة، إلا إذا كان ما يفعله صاحبهم هو الدعاية لصالح المستوردين، وربما يشهد المستقبل احتكار الجيش لهذه التجارة.
إن مشكلة صاحبهم في اعتقاده أنه يستطيع بيع الماء في حارة السقايين!
سطور أخيرة:
حديث الفقر..
عندما يعيش الراعي، صاحب سلسلة القصور الرئاسية وطائرات الرفال المزودة بمضادات الصواريخ، كما يعيش الرسول في وقت الحصار ووقت الرخاء، يصبح من الطبيعي تعميم هذا الخطاب على الرعية!
فبعد حديث القائد الضرورة عن
حصار مكة، خالد الجندي يدخل على الخط بأن بيت النبي كان لا يوقد فيه ناراً بالشهر والشهرين!
عندما يعيش الراعي، صاحب سلسلة القصور الرئاسية وطائرات الرفال المزودة بمضادات الصواريخ، كما يعيش الرسول في وقت الحصار ووقت الرخاء، يصبح من الطبيعي تعميم هذا الخطاب على الرعية!
وعندما يكون برنامج خالد الجندي على قناة دي إم سي حسبة لله، يصبح من الطبيعي أن يروج لهذا الخطاب!
فليقل لنا خالد الجندي كم يتقاضى ابتداء على هذا البرنامج الدعائي، وكيف يمكن في بلد فقير أن يتقاضى مقدم برنامج الملايين، وتُنفق عشرات الملايين على قناة فاشلة ثم يُطلب من الشعب أن يصبر على الفقر؟!