الكتاب: "قدوم الإقطاع الجديد - تحذير إلى
الطبقة الوسطى العالمية"
الكاتب: جويل كوتكين
ترجمة: د. نايف الياسين
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،
الطبعة الأولى 2023
(373 صفحة من القطع الكبير).
ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير وحتى
الثورة الصناعية (1750- 1850)، وهي تشكل منارة مضيئة وعظيمة في تاريخ تطور
البشرية. فالليبرالية متناقضة جذريا مع الأيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة
الماوراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة . وهي ضد الوحي والميتافيزياء حين
أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرية وهي ضد سحق
الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد. فقد جاءت الليبرالية
كانتصار باهر على النظام الاقطاعي الذي ساد في العصور الوسطى، وهو النظام الذي كان
يستند على الاستبداد والعبودية وقهر حرية الفرد وحقوقه وشكل حينذاك بمؤسساته وقيمه
وعلاقاته عائقا أمام تطور الرأسمالية في
ظهورها .
ولقد ارتبط صعود الليبرالية الجديدة في
الولايات المتحدة وأوروبا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا
بتولي اليمين المتطرف أو اليمين النيوليبرالي مقاليد السلطة، وهو اليمين الذي لا
يعبأ مطلقا باعتبارات العدالة الإجتماعية وأهمية التوظيف الكامل في عصر العولمة.
يقول اغناسيو رامونيه في كتابه "الجغرافية السياسية للفوضى": إنَّ سادة
العالم الجديد، ما عادوا يتمثلون برؤساء الدول ورؤساء الوزارات وزعماء الأحزاب
السياسية وقادة التكتلات البرلمانية، بل
بمدراء الشركات المتعددة الجنسية ورؤساء مجالس الإدارة وأرباب الرأسمال المالي وكبار
المضاربين في البورصات والأسواق المالية. وليست الدول هي التي تملي سياساتها على
رجال الصناعة والمال، بل هؤلاء هم من يملون على السياسيين السياسة المطلوب تنفيذها .
فالسلطة السياسية في زمن العولمة، أو
التوتاليتارية الليبرالية الجديدة تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى
الأسواق المالية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في
عالم اليوم، هو الرأسمال المالي وتوتاليتارية
الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الإعلام الجماهيري.
وعلى هذا النحو يؤكد عالم
الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو في معرض نقده للعولمة، بقوله: إن
التوتاليتارية لم تعد صفة للدولة بل صفة للإقتصاد، وأنَّ التوتاليتارية الاقتصادية،
بعكس التوتاليتارية السياسية، توتاليتارية مغلفة ولا منظورة، وتبسط هيمنتها "السرِّية"
على العالم بأسره.
فمن خلال البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي
الأوروبي والشركات المتعددة الجنسيات تمارس "الحكومة العالمية اللامنظورة"
دورها حسب تعبير بورديو "سلطة شبه مطلقة على كبريات المجموعات الإعلامية
المتخصصة في إنتاج وتوزيع السلع الثقافية، وفي التحكم بالرأسمال الرمزي، وفي فبركة
رؤية للعالم توافق إلى حد بعيد المصالح الاقتصادية والمالية لسادة العالم الجديد".
في عصر هذه التوتاليتارية الليبرالية
الجديدة، يعود الإقطاع من جديد في الغرب، بعد وقت طويل من الاعتقاد بأنَّه أُودِعَ
في سلة المهملات التاريخية. وسيبدو مختلفاً هذه المرة بالطبع؛ إذ لن نرى فرساناً
يرتدون دروعاً لامعة، أو أتباعاً يؤدون فروض الطاعة لأسيادهم، أو كنيسة كاثوليكية
قوية تفرض نسختها السائدة من العقيدة ما نشهده هو شكل جديد من الأرستقراطية يتطور
في الولايات المتحدة وغيرها، مع نزوع الاقتصاد ما بعد الصناعي إلى التركز أكثر
فأكثر في عدد أقل وأقل من الأيدي.
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان
التالي:قدوم الإقطاع الجديد- تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية ، ويضم بين طياته، تمهيد،
وواحد وعشرون فصلا،من الحجم الصغير، إذ أن الكتاب يحتوي على حوالي 178 صفحة من
المراجع الإنجليزية والأمريكية، لمؤلفه جويل كوتكين، يجادل بأن الاتجاهات
الاقتصادية والسياسية الراهنة تؤدي إلى ظهور شكل جديد من الإقطاع المعولم، حيث
تسيطر أوليغارشية مالية محدودة العدد على معظم الثروة والسلطة، بينما يتضاءل ما
تبقى من المجتمع إلى طبقة دنيا تابعة لا تتمتع بأي درجة من السلطة.
ويحدد المؤلف العوامل المختلفة التي تسهم في
تكوين هذه الاتجاهات، بما فيها تركّز الثروة والسلطة في أيدي أقطاب الأوليغاركية
التكنولوجية، وتراجع إمكانية الارتقاء الاجتماعي، وتآكل المؤسسات الديمقراطية،
وتنامي النزعة الاستبدادية.
انبعاث الإقطاع المعولم
في ظل العولمة الليبرالية الأمريكية
المتوحشة التي تقودها امبراطورية واحدة وتدعى PaxAmericana القائمة على السلطة اللصوصية ـ الفاسدة
للدولار، حيث تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأسها، خدمة لمصلحة رأس المال
الأمريكي الشمالي الذي انطلق يبحث قائلاً: إنّ العولمة هي عملية تقدم المصالح
الأمريكية في جميع أنحاء العالم، تتمثل الحالة الموازية الأوضح في عصرنا في تركز
الثروة في أيدي عدد أقل من الناس بعد حقبة من المرونة والارتقاء الاجتماعيين
القويين. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين رخاء متنامياً بمشاركة واسعة في
العالم المتقدم، مع توسع الطبقة الوسطى وارتقاء الطبقة العاملة ـ وهو تطور حدث
أيضاً في كثير من البلدان النامية. اليوم، تصب مزايا النمو الاقتصادي في معظم
البلدان على نحو رئيسي في أيدي الشريحة الأكثر ثراءً من السكان.
وتشير أحد التقديرات التي تقتبس على نطاق
واسع إلى أن الحصة من الثروة العالمية التي يمتلكها أغنى 0.1 في المئة من سكان
العالم ارتفعت من 7 في المئة في عام 1978 إلى 22 في المئة في عام 2012. تشير دراسة
برلمانية بريطانية أجريت أخيراً إلى أن هذه النزعة العالمية ستستمر؛ ففي عام 2030،
يتوقع أن يسيطر أغنى 1 في المئة من السكان على ثلثي الثروة العالمية. وتُورّث هذه
الثروة من جيل إلى جيل على نحو يخلق شيئاً أشبه بأرستقراطية مغلقة. قد لا تتمتع
هذه الفئة بمكانة قانونية تمنحها امتيازات خاصة أو سلطة سياسية تمارسها بموجب حق
الميراث، إلّا أن ثروتها تمكنها من شراء النفوذ على الحكومة وعلى الثقافة. وهكذا
نرى نشوء مجموعة أو أوليعارشية مالية في دول يُفترض أنها ديمقراطية، مع تطعيم دولة
مركزية قوية بأرستقراطية إقطاعية جديدة.
إنّ العولمة هي عملية تقدم المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم، تتمثل الحالة الموازية الأوضح في عصرنا في تركز الثروة في أيدي عدد أقل من الناس بعد حقبة من المرونة والارتقاء الاجتماعيين القويين.
يقول المؤلف جويل كونكين: تاريخياً، لم يكن
الإقطاع نظاماً أحادياً، وقد استمر وجوده في بعض الأماكن مدداً أطول من وجوده في
أماكن أخرى. لكن يمكن رؤية ملامح بارزة معينة في الهيكليات الإقطاعية في جميع
أنحاء أوروبا في العصور الوسطى تتمثل في نظام تراتبي صارم للمجتمع، وشبكة من
الالتزامات الشخصية التي تربط الأتباع بالأسياد، وصمود طبقات مغلقة واستمرارها
ومكانة أشبه بمكانة الأقنان للأغلبية الساحقة من السكان. لقد هيمنت القلة على الكثرة
كما لو كان ذلك بموجب قانون طبيعي. واتسم الحكم الإقطاعي بدرجة أكبر بكثير من
اللامركزية مما كان سائداً في الإمبراطورية الرومانية التي سبقته أو في الدول
الأمم التي تلته، وكان يعتمد على العلاقات الشخصية أكثر مما فعلت الرأسمالية
الليبرالية أو اشتراكية الدولة. لكن في الحقبة الإقطاعية ساد مثل سكوني لمجتمع
منظم، مدعوم بعقيدة واحدة إجبارية، وطغى على الديناميكية والمرونة الحركية، في ظرف
من الركود الاقتصادي والديموغرافي (ص11).
ويقارن المؤلف جويل بين المثقفين في العصور
الوسطى حيث كان الإقطاع سائدًا، وما بين ظهور مجموعة من المثقفين العلمانيين الذين
يقودون المجتمع بمعرفتهم، ولكن في خدمة مصالح وسلطة الأوليغارشية المالية العالمية،
"أي الوطنية" أو الكوسموبوليتية، وهو مصطلح استخدمه كارل ماركس وفريدريك
إنجلز لوصف حالة الشركات الاحتكارية التي ولدت من رحم الرأسمالية ويصف المؤلف هذه
النخبة من المثقفين العلمانيين بفئة "الكتبة" (clerisy)مستعيرًا في ذلك المصطلح من صامويل تايلر
كوليريدج Samuel Taylor Coloridge)،
الذي تنبأ مع تراجع الدور الثقافي للكنيسة.
فكتبة اليوم هم الأشخاص الذين يهيمنون على
الشبكة العالمية للمبدعين الثقافيين والوسط الأكاديمي، ووسائل الإعلام، بل يسيطرون
أيضاً على جزء كبير مما تبقى من المؤسسات الدينية التقليدية. ويتشاطر هؤلاء الكثير
من المعتقدات مع الأوليغارشيين ـ بشأن العولمة والبيئة، على سبيل المثال ـ
وينشرونها للشريحة الأوسع من السكان بصفتها عقيدة علمانية صحيحة. لكن كحال رجال
الدين في القرون الوسطى، فإنهم يقومون أحياناً بدور المراقب على سلطة النخب
الاقتصادية.
تقابل طبقتا الكتبة والأوليغارشيين في ظل
سيطرة الإمبراطورية المالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية
المانحة متمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، طبقتي
رجال الدين والنبلاء في العصور الوسطى ـ أو الطبقة الأولى والطبقة الثانية، كما
كانتا تعرفان في فرنسا.
وتحت هؤلاء تأتي المجموعة الأكبر بكثير التي
تقابل طبقة "العوام" في العهد الإقطاعي، أو الطبقة الثالثة: أولئك الذين
لم يكرَّسوا ولم يشرّفوا. طبقة اليوم الثالثة، الذين يسميهم المؤلف "العامة" (commoners)، تتكون من
جزأين متمايزين. فهناك الطبقة الوسطى التي تملك حيازات، والتي توازي العامة
الإنكليزية القديمة لكن مع انتقال روح الاستقلال إلى سياق حضري أو ضاحية من الضواحي).
لعب العامة تاريخياً دوراً حاسماً في
الإطاحة بالنظام الإقطاعي ـ لكن نظراءهم اليوم يعصرون تحت الطبقة الأوليغارشية.
ثانياً، هناك الطبقة العاملة التي تصبح على نحو متزايد شبيهة بالأقنان في العصور
الوسطى، مع تضاؤل فرصها في امتلاك أصول مهمة أو تحسين أوضاعها إلا عبر الإعانات
الحكومية.
ويرى المؤلف أنَّ هؤلاء الكتبة الجدد،
والمنظرون الأيديولوجيون الذين يقومون على خدمة الأوليغارشية المالية في باكس
أمريكانا، يفضلون عدم استخدام "رأسمالية" لأنَّ هذا النظام القائم منذ
زمن الثورات البرجوازية قد أفلح بتشويه نفسه. أما التعابير المفضلة لهم
أو"الملائمة سياسيًا"تلك التعابير التي لا تعني شيئًا من مثل ط السوق
الحرًّة" أو" الاقتصاد الحر".لكن هذا لا يغيِّر في جوهر الأمر شيءٌ.
يقول المؤلف جويل: "رغم أنَّ
المجموعتين اللتين تكونان الطبقة الثالثة تتراجعان إلى المؤخرة، فإنَّهما ما تزالان
قادرتين على تشكيل تحدٍّ لطبقتي الأوليغارشية والكتبة، بالنظر إلى أنها لم تعد
هادئة وساكنة في وجه العولمة والتقادم (obsolescence) التكنولوجي. إننا نشهد ما وصفه أحد علماء الاجتماع بـ
انشقاق الطبقة العاملة" عن ولائها التقليدي لليسار السياسي، بالتزامن مع رفضها
للرأسمالية العالمية وبنيتها القيمية العالمية. ورغم أن تحدي الطبقة الأوليغارشية
يأتي غالباً من اليمين الشعبوي، ثمة قوى أخرى يمكن أن تهاجم من اتجاه آخر، ولا
سيما العمال الأصغر سناً والشرائح الأقل ثراءً من الكتبة، الذين قد يشكلون معاً ما
وصفه كاتب محافظ بأنه "جيش من الأموات - الأحياء المعادين للرأسمالية رغم ما
يبدو من فرض الإقطاع الجديد لوجوده، فإنه يثير أيضاً قوى مناهضة تعد بأوقات
مضطربة" (ص13)..
الإمبراطورية المالية العالمية يلهمها في
ذلك الإمبراطورية الرومانية، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد
السوفياتي، وقد اكتسبت أبعادًا جديدة في ظل النظام الدولي أحادي القطبية (1989 ـ 1999)،
بعد توحد ألمانيا. وقد قام كل من مارغريت تاتشر، وفرانسوا ميتران، وجورج بوش الأب،
بفرض فكرة الإمبراطورية الرومانية الجديدة على العالم. دولة عالمية ناطقة
بالإنكليزيةوتدار من لندن سيتي، ومن نيويورك سيتي .وعند إجراء مقارنة تحليلية بين
كلا الإمبراطوريتين ،فإن الباحثين المعاصرين يركِّزون انتباههم على الجوانب
الجيوسياسية (أو الجيوبوليتيكية)..
رغم أن الرأسمالية الليبرالية ولدت كثيراً من التحديات الاجتماعية، والسياسية والبيئية، فإنها حررت مئات الملايين من الذل، والقسوة المتجذرة، والأنظمة القائمة على الأهواء التي هيمنت على الجزء الأكبر من التاريخ. وقد تحسنت الظروف المادية للحياة بشكل جذري ليس في أوروبا وأميركا وحسب بل في الجزء الأكبر من العالم.
کحال جميع الهيكليات الاجتماعية فإن النظام
العالمي الليبرالي جلب معه مظالمه الخاصة به. الأمر المخزي أكثر من أي شيء آخر هو
أن العبودية أعيد إحياؤها، وامتدت إلى مناطق مستعمرة جديدة، فضلاً عن عودة الإقطاع
من جديد،في ظل انهيار الطبقة الوسطى العالمية.
رغم أن الرأسمالية الليبرالية ولدت كثيراً
من التحديات الاجتماعية، والسياسية والبيئية، فإنها حررت مئات الملايين من الذل،
والقسوة المتجذرة، والأنظمة القائمة على الأهواء التي هيمنت على الجزء الأكبر من
التاريخ. وقد تحسنت الظروف المادية للحياة بشكل جذري ليس في أوروبا وأميركا وحسب
بل في الجزء الأكبر من العالم.
مع بداية سبعينيات القرن العشرين، بدأ القوس
بالانحناء خلفاً في المناطق التي شهدت ولادة الرأسمالية والديمقراطية الحديثة ـ
أوروبا، وأستراليا، وأميركا الشمالية. بدأت حركة الارتقاء الاجتماعي للطبقة الوسطى
والطبقة العاملة بالتوقف، في حين أن حظوظ الطبقات العليا ازدهرت بشكل جذري استمرت
الاقتصادات بالنمو، لكن معظم مزايا ذلك حصدها الأثرياء جدّاً ـ الواحد في المئة
ولا سيما الـ 0.1 في المئة على القمة ـ في حين خسرت الطبقات الوسطى مواقعها.
في الفترة 1945 ـ 1973، حصل أغنى 1 في المئة
من سكان أمريكا على 4.9 في المئة من النمو الإجمالي للدخل في الولايات المتحدة،
لكن في العقدين التاليين ابتلع أغنى 1 في المئة من السكان معظم النمو
الأميركي." والآن، تتجاوز الثروة المجتمعة لأغنى 400 أمريكي إجمالي ثروة
185مليون مواطن أمريكي." في الدول الأوروبية، التي تتميز بسياساتها في الرفاه
الاجتماعي، تدفع الشريحة العليا من الطبقة الوسطى ضرائب مرتفعة جداً بينما يجد
الأشخاص الأكثر ثراء طرقاً لإخفاء ثرواتهم بما يكفي للمحافظة على هيمنتهم، بل
زيادتها. المفاجئ هو أنه في الدول التقدمية مثل فنلندا، فإن ملكية الأسهم تتركز في
أيدي الأشخاص الأكثر ثراء أكثر مما هو الحال في الولايات المتحدة.
النزعة ليست غربية حصراً. ففي الصين
الاشتراكية اسماً، على سبيل المثال، يمتلك أغنى 1 في المئة من السكان نحو ثلث ثروة
البلاد، ويمتلك نحو 1.300 شخص نحو 20 في المئة منها. منذ عام 1978، تضاعف معامل
جيني (Gini) الذي يقيس عدم
المساواة في توزيع الثروة في الصين، ثلاث مرات." عالمياً، بات الأثرياء جداً
طبقة أرستقراطية ناشئة. أقل من 100ملياردير يملكون معاً نصف أصول العالم، وهي نفس
النسبة التي كان يملكها نحو 400 شخص قبل أكثر من 500 عام بقليل."
كما يتضح تركز الثروة أيضاً في ملكية
العقارات. ففي الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة الأرض التي يملكها أكبر 100 مالك خاص
للأراضي بنحو 50 في المئة بين عامي 2007و2017،طبقاً للاند ريبورت (Land Report). في عام 2007،
كانت هذه المجموعة تملك ما مجمله 27مليون فدان من الأرض، ما يعادل مساحة ولايتي
مين ونيو هامبشاير معاً؛ وبعد عقد من الزمن، بات أكبر مئة مالك للأرض يملكون 40.6
مليون فدان، أي أكثر من كل مساحة نيو إنغلاند." في معظم أنحاء الغرب
الأميركي، خلق المليارديرات ملكيات شاسعة يخشى كثيرون أنها ستجعل ما تبقى من
السكان المحليين فقراء فعلاً فيما يتعلق بملكية الأرض.
يقول المؤلف جويل: "في عالم يزداد انقساماً، فإنَّ مجتمعات النخبة محاطة
بالفقراء الحضريين وببلدات صغيرة تتلاشى وتصبح معدمة كما يكتب عالم الجغرافيا
اليساري كريستوف غيلوي، فإن العولمة أعادت إحياء قلاع فرنسا
القروسطية"." فكمدن القلاع اليابانية أو المدن المحاطة بالجدران في
إيطاليا القروسطية، تمثل مناطق نخبوية جيوباً للامتيازات، في حين أن الأماكن الأقل
جاذبية تقطنها الطبقات الجديدة التي تعيش حالة من الذل."
تماماً كما تقاسمت النخبة الكهنوتية السلطة
مع النبلاء في العصر الإقطاعي، فإن علاقة بين الكهنوت والأوليغارشية تكمن في جوهر
الإقطاع الجديد. أفراد هاتين الطبقتين غالباً ما يتخرجون في المدارس نفسها،
ويعيشون في أحياء متشابهة في مدن مثل نيويورك، أو سان فرانسيسكو، أو لندن على وجه
الإجمال، فإنهم يتشاطرون رؤية
موحدة إلى العالم، ويتحالفون بشأن معظم القضايا، رغم وجود صراعات بين الحين
والآخر، كما كان يحدث بين النبلاء ورجال الدين في القرون الوسطى. من المؤكد أن
لديهم وجهات نظر متشابهة بشأن العولمة، والعالمية، وقيمة المؤهلات المعتمدة، وسلطة
الخبراء (ص19).