كتاب عربي 21

البربرية الإسرائيلية بلا مستقبل

1300x600
السؤال الدائر في غزة الآن لا يجب أن يكون حول ما إذا سيقتل فلسطينيون أكثر من إسرائيليين أم لا. معركة إلغاء الفلسطينيين من قبل الهمجية الإسرائيلية وصلت إلى مأزق منذ بدأت في الحرب 1948. كانت غولدا مائير تريد أن ترى "أرضا بلا شعب"، والحقيقة أن الاستراتيجيا الإسرائيلية كانت استئصال الشعب حتى تبقى أرضه بلا ملكية باستثناء الوصية التوراتية. تعرض الفلسطينيون للمجازر والتهجير والحصار وبقوا يشخصون إلى جلاديهم بكل ثقة. سيستشهد منهم في المواجهة الراهنة عدد أكبر كما هي العادة. لكن السؤال هل سيخسرون الحرب في الأفق الاستراتيجي طويل الأمد أم لا. فهذه ليست إلا معركة في سلسلة طويلة من المعارك. وهكذا فإن أرقام الضحايا لا تعكس مؤشرات المستقبل. 

مؤشرات المستقبل في عدد من العناصر وهي كالتالي: مدى تطور الجاهزية العسكرية الفلسطينية مع كل مواجهة، ومدى قدرة الاسرائيلي على تحمل مواجهات اضافية، واخيرا من سيحسم اهم المعارك اي توازنات الديمغرافيا. 

الجاهزية العسكرية الفلسطينية تتطور نحو وضع "الفدائيين-التقنيين" (techno-guérilla) الذي بلغه "حزب الله" في مواجهة 2006. هذا المفهوم الذي طبقه لاول مرة على الوضع العربي الباحث البلجيكي جوزيف هينروتين بتأثير من تطور التنظيم اللبناني الشيعي في مواجهته مع اسرائيل والذي صاغه في الاصل الضابط في الجيش الالماني ايكارد افهالد، يتحدد في عدد من الخصائص التي تنطبق على وضع المقاومة الفلسطينية الحالية. 

المفهوم المركزي هنا هو خطة "الدفاع غير الهجومي" والذي يعتمد على خلايا محدودة من المقاتلين تتحرك بسرعة وتفرض مواجهات سريعة قائمة على تكتيك "اضرب واهرب" بيد ان المقاتل لا يملك فقط اسلحته الرشاشة كما هي الحال في جل "حروب العصابات" عموما بل يمتلك ايضا اسلحة اخرى ليست خفيفة وليست ثقيلة في ان سواء الصواريخ التي تترواح بين 15 كم و200 كم وبعضها بصناعة منزلية غير مكلفة وسهلة النقل او الدفاع الجوي سريع التنقل في حالة مواجهة غير برية. وفي حالة المواجهة البرية المباشرة الاسلحة المضادة للدبابات. 

على مستوى الاتصالات يملك "الفدائي-التقني" ميزة اخرى وهي تنزيل تقنيات بسيطة في الاتصال ضمن منطق البنية السرية. مثلا "حزب الله" استعمل تقنيات بسيطة ولكن قادرة على الخداع لضمان بنية اتصالات ناجعة مثل الكوابل التلفونية المدفونة تحت الارض. يضاف الى ذلك قدرة الضعيف على تحقيق نقاط في الحرب الاعلامية من خلال تصوير المواجهات ونشرها والتقاط المكالمات الهاتفية للجنود الاسرائيليين. العامل الاخر المهم ان تكلفة التقنيات الجديدة هي اكثر فأكثر رخيصة وغير مكلفة. مثلا 100 مليون دولار كافية لشراء تجهيزات سيبرنية من اعلى طراز، والتجهيزات الاخرى من كمبيوترات وغيرها تتقلص كلفتها بشكل سريع، والمناظر الليلية يمكن الحصول عليها الان عبر السوق السوداء وبتكلفة غير كبيرة.

من المرجح ان في ظرف السنوات الاخيرة بعد مواجهة 2006 تحصل كل من "كتائب القسام" (حماس) و"سرايا القدس" (الجهاد الاسلامي) على دعم منتظم من قبل ايران سمح بتجهيزهما بذات القدرات العسكرية التي تم تجهيز "حزب الله" بها. التقديرات الاسرائيلية تقول الآن ان "القسام" مجهزة مثلا بحوالي ستة الاف صاروخ بينها عشرات الصواريخ التي تستطيع الوصول الى تل ابيب ومدن اخرى في الشمال والتي يقدر مداها بين 75 كم و200 كم وقادرة على حمل ما يصل 145 كغ من المتفجرات. من جهة اخرى "سرايا القدس" تملك حسب ذات التقديرات اكثر من ثلاثة الاف صاروخ بينها العشرات من المدى المتوسط والبعيد. بالاضافة ال ذلك فإن كلى التنظيمين مجهزين بالاف قاذفات الار بي جي وعشرات القاذفات عالية الجودة المضادة للدبابات. 

تطور جاهزية "القسام" على مستوى التدريب والتجهيز تجسمت بشكل واضح ايضا في عملية التسلل البحري التي قام بها كومندوس فلسطيني يوم 8 جويلية والتي تم تصويرها بكاميرهات تحت مائية. ورغم اسستشهاد عناصر المجموعة الا ان نجاح عملية التسلل وحدها وتصويرها مثلت اختراقا غير مسبوق للدفاعات والتحصينات الاسرائيلية وضربة دعائية كبيرة للمقاتل الفلسطيني عكست قدرته على احداث المفاجأة واستباق المنظومة الاستعلاماتية الاسرائيلية. 

مما لا شك فيه أن "القبة الحديدية" الاسرائيلية اسقطت غالب الصواريخ (التقديرات الرسمية الاسرائيلية تشير الى "نجاح بنسبة 90?") بيد ان اي نسبة مهما كانت ضعيفة من نجاح مرور الصواريخ يمثل في ذاته قدرة على الارباك في العمق بعيدا شمال غزة. وهذا يطرح مسألة أخرى وهي قدرة العدوان الاسرائيلي على مجاراة هذا النسق من التهديد القريب والمنهك. الاطمئنان الاسرائيلي للتفوق التكنولوجي لم يقرأ حساب التجهز التكنولوجي لـ"الفدائي" وقدرته على تهيئة التقنية الجديدة لفائدته بما يمكنه من خلق المفاجأة والارباك. هذا مؤشر آخر على أن الصراع طويل الامد في مصلحة الضحية والاقل قدرات مادية وايضا صاحب القضية. 

يبقى مؤشر آخر هام في معركة الارادات هذه. لا يختلف مختصان في الديمغرافيا في امر اساسي التفوق المتوقع للعرب الفلسطينيين على اليهود الاسرائيليين في التوازن الديمغرافي. التقديرات تشير الى انه بحلول سنة 2035 فإن اليهود الاسرائيليين سيصبحون اقل من نصف سكان الاراضي الفلسطينية اذا تواصل الوضع كما هو عليه اي بدون عودة الفلسطينيين المهجرين بما في ذلك في مجال "فلسطين 48" والضفة وقطاع غزة (46? مقابل 54? للعرب عموما من الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين). ومرة أخرى هذا بدون حساب الفلسطينيين الموزعين في دول الشتات. 

بكل تأكيد، وذلك ليس بأي حال جديدا، التوازن العسكري في المواجهة الدائرة الان في غزة وبلغة الارقام في مصلحة العدوان الاسرائيلي. ما هو جديد انه على مدى استراتيجي وكلما تحدث مواجهة جديدة فإن قوة الردع الفلسطينية في تزايد مقابل تقلص تلك الاسرائيلية. اذا اضفنا الى ذلك قدرة التحمل الاقل للاسرائيلي بمرور الوقت وافق النمو الديمغرافي بين العرب الفلسطينيين مقابل اليهود الاسرائيليين فإن الوقت في مصلحة الفلسطيني وليس الاسرائيلي. يدفع الفلسطينيون الان ثمنا بشريا باهضا. لكنهم لامحالة منتصرون