مقالات مختارة

كيف تكون مسلما أرثوذكسيا؟

1300x600
أدّت المفاضلة الاستشراقية بين السنّة والشيعة في القرنين الماضيين دوراً لا يقلّ بكثير عن الدور الذي أداه الاستقطاب الإمبراطوريّ الثنائي بين العثمانيين والصفويين، في إعادة إنتاج القسمة بين المسلمين وتنزيلها منزلة التناقض الأساسي، الثابت جوهرياً والمتحوّل مقامياً، منذ فجر الدعوة إلى اليوم.

لو شئنا الإطلاق لقلنا أن كفّة الاستشراق الغربي مالت بمعظمها لصالح التشيّع بازاء التسنّن، مرة بامتداحه على أنّه، أي التشيّع، هو الإسلام الحقيقيّ، ومرة بامتداحه، على أنّه، أي التشيّع، دين غير الإسلام. مرة بتوظيف عناصر التقريب بين التشيّع والمسيحية، ومرة بتوظيف «الأسطورة الآريّة» بحيث تصبح قسمة «سنة وشيعة» مآلاً من مآلات المقارعة الدائمة بين العقل الساميّ والعقل الآريّ، وصولاً إلى إقامة الاختلاف بين لغة الوحي ولغة الملائكة، والاستفهامات عن لغة أهل الجنّة.
مفهوم «الأرثوذكسية» أيضاً استُحضِر، وهو كان، بعد تاريخه الحافل والمركّب في المسيحية، قد وجد مسرحاً إضافياً له في الحركة المتحفّظة، المناوئة للأنوار اليهودية «الهسكالاه» داخل اليهودية. طبعاً، نحن نعني شيئين مختلفين عند الحديث عن «أرثوذكسية مسيحية» وعند الحديث عن «يهودية أرثوذكسية».

في الحالة الأولى، الأرثوذكسية تمسك بتركة المجامع الكنسية الأولى (بتعداد يختلف بين أرثوذكسية وأخرى، فالأرثوذكسية القبطية والأرمنية مثلاً، تعتبر أن المجامع السابقة على خلقيدون كانت تؤكد عقيدتهما في الطبيعة الواحدة للمسيح، في حين أن أرثوذكسية «الأرثوذكس» تستند تحديداً إلى مقرّرات مجمع خلقيدون)، وتثبيت مرجعيتها بإزاء الأجيال المسيحية السابقة على هذه المجامع، وبإزاء التاريخ الكنسي التالي على هذه المجامع، كذلك الأمر، أي في منتصف الطريق بين البروتستانتية، ذات المنزع السلفي، السابق للمجامع التأسيسية، وبين الكاثوليكية، التي تذوّب الفارق بين زمن التأسيس وزمن التمأسس. 

لكن هذه الأرثوذكسية، وفي سياقها الروسيّ والسلافيّ تحديداً، أغنت سراطية العقيدة بموقف إيجابي بشكل عام، من تشرّب الإحالات الوثنية والشامانية في المجاهدات والعبادات. أن تكون أرثوذكسياً في روسيا يعني أن تكون أرثوذكسياً من حيث العقيدة، وهرطقياً من حيث الممارسة! 
أمّا «اليهودية الأرثوذكسية» فقد شكّلها التيار الذي وقف بالمرصاد لنزعة الأنوار اليهودية من جهة، وبازاء التصوّف الحسيدي من جهة ثانية. في القرن الثامن عشر كان هذا التيار المتزمّت في مواجهة مساعي العقلانيين الإصلاحيين لاختصار اليهودية وتسريح منظومتها الفقهية، وكان يخوض في الوقت نفسه، على طريقته، معركة «العقل النقلي» بإزاء كرامات بعل شيم توف والتصوّف الحسيديّ، وكان اليهود الأرثوذكس يعرفون بتيار الرافضين، أو «ميتناغديم». ثم ارتضوا تسمية «أرثوذكس» الذي خلعها عليهم خصومهم الإصلاحيون دون وجل، إلا الغلاة منهم، أي «الأولترا – أرثوذكس»، الذين يُميّزون فرقهم بتسمية «حريديم». 

العصر الحديث إذاً وسّع مفهوم «الأرثوذكسية» ليكون لها نطاق مسيحي وآخر يهوديّ. في المقابل، لم ينجح «زرع» هذا المفهوم في الإسلام في أن يتحوّل إلى موضوع تمايز ذاتي لرهط من المسلمين بإزاء آخر.

نظر بعض المستشرقين للإسلام السنيّ على أنّه صنو «الأرثوذكسية»، ونظر بعضهم الآخر إلى انّ التشيّع هو الأقرب إلى تجسيد مفهوم «الأرثوذكسية» في الحقل الإسلامي. ومع الوقت، تنامى الاقتناع بجزئية الحاجة إلى هذا المفهوم عند مقاربة الوقائع الدينية والعقيدية والفقهية الإسلامية.
في العصر الحديث، صرت ترى إذاً يهودياً يعرّف نفسه «أنا يهودي أرثوذكسي»، وليس مسلماً يعرّف نفسه «أنا مسلم أرثوذكسي». في المقابل، منذ المحاباة العثمانية للبروتستانت في القرن السادس عشر، وصولاً إلى كتابات الإصلاحيين المسلمين في القرن التاسع عشر، بل إلى اليوم، ثمّة استحسان إسلامي عام، للمقارنة مع البروتستانتية، وهو استحسان يتحرّك بين حدّين، «البروتستانتية إسلام غير واع»، من جهة، و «نحن بروتستانت الأمة الإسلامية» من جهة ثانية. عبد الله العروي يبرز بشكل جيد كيف تحرّكت محاجة الشيخ محمد عبده بين هذين الحدّين. 

يعود الفشل النسبي لعملية زرع مفهوم «الأرثوذكسية» إسلامياً إلى حصر الاستشراق له، وإلى حد كبير، بمسألة تبيان، أيّ الفرعين، التشيّع أو التسنّن، يمثّل الأرثوذكسية في الحقل الإسلاميّ.
طبعاً، بمعنى من المعاني ليس هناك فرقة دينية إلا وتعتبر نفسها -كما يذكّرنا جيلبرت شسترتون-ارثوذكسية، أي تعتبر أنّ عقيدتها هي القويمة، وعقائد الآخرين بين هرطقة وزندقة. لكن، في الوقت نفسه، ثمة اختلاف بين فرقة تنجح في حمل المخالفين لها، ولو ضمنياً، على الإقرار بأنّها نجحت في انتزاع السباق على «المرتبة الأرثوذكسية»، أقلّه تسويقياً، لكن تدريجياً من حيث «هيبة المؤسسة»، وبين فرقة يمكن أن ينتهي بها الأمر إلى تقبّل «وضعيتها الهرطقية» كنتيجة لميزان القوى الممتد في الزمان والمكان. 

كيف تكون مسلماً أرثوذكسياً؟ إلى حد كبير بقي هذا السؤال غير مطروح. وغير مطروح لأنه قريب جدّاً وبعيد جدّاً في آن عن طائفة من الأسئلة المشابهة. لكن السؤال «كيف تكون مسلماً أرثوذكسياً؟» لا تستوعبه مباشرة القسمة بين «السنن والبدع»، وبين «البدع الحسنة وبين البدع الضلال»، وبين التقليد والتجديد، وبين الإسلام الشعبي والإسلام الإحيائي. بمعنى من المعاني، ليس ثمّة أرثوذكسية في الإسلام طالما أنّه ليس دين كنيسة ومجمع، لكن اليهودية تشترك في ذلك أيضاً ومع ذلك وظّف مفهوم الأرثوذكسية داخلها.

وبمعنى آخر، نجحت المرحلة الاستقطابية العثمانية – الصفوية في تشكيل ملامح أرثوذكسيتين، واحدة سنية والثانية اثني عشرية، ليتداعى ذلك إلى حد كبير، في مرحلة ما بعد العثمانيين والصفويين، ثم لنصل إلى مرحلة الاستشراق الحديث، المرتبط ببدايات الهيمنة الأوروبية على الشرق الإسلامي، فيطلق المستشرقون المفاضلة بين التسنّن والتشيّع، أيّهما الأكثر إسلاماً، أيّهما الأقرب للمسيحية أو لليهودية، أيّهما الأقرب لتجسيد العقل الشرقي، أيّهما الأقرب للتفاعل مع العقل الغربي الحديث، ومع الديموقراطية والعلمانية والاشتراكية والامبريالية؟ 

في هذا، كان تأثير المستشرقين ضخماً؛ لأنّه حين يتصاعد التوتّر المذهبي، قد يعرّج في جزء منه إلى صفحات من التاريخ (المتخيّل) الغابر، لكنه يعرّج بالحدّة نفسها أيضاً على المفاضلة الاستشراقية. «أنا أكثر تصالحاً منك مع الفكرة الديموقراطية» يقول الواحد للمخالف معه في المذهب، ولو كان بكلمات أخرى.

بالتوازي، يفسح هذا التشرّب للتنميطات الاستشراقية المجال لاقتباس الإسلاموفوبيا وتأطيرها مذهبياً، كما لو كانت الإسلاموفوبيا تقوم على مقولات صحيحة، لكنها مخطئة في التعميم العابر للمذاهب، وكان عليها ان تكتفي بالشيعة دون السنة، أو بالسنة ضد الشيعة. 

يمكنك أن تكون مسيحياً أرثوذكسياً، يهودياً أرثوذكسياً أو أولترا – أرثوذكسياً. أما أن تكون مسلماً أرثوذكسياً، فتلك حيرة وقعت بها المرحلة التكوينية للتقاليد الاستشراقية، حيرة مختصرها، أي الإسلامين، السنّي أو الشيعي، ليس بإسلام. أن لا يكون التشيع إسلاماً كاملاً، أو أن يكون هو الإسلام الصحيح، فهذان موقفان انحاز لهما مستشرقون كثر فاضلوا بين التسنن والتشيّع لصالح التشيّع. طبعاً، ثمّة في المقابل، هنري لاوست الذي كان خياره في المفاضلة يذهب لحساب الحنابلة. فلم يكن الاستشراق واحداً، لكنه كان واحداً في مفاضلته، واحداً في زرع، وتفشيل زرع، مفهوم الأرثوذكسية إسلامياً، الأمر الذي سهّل بعد ذلك، إمكانية الاستعادة المذهبية إسلامياً لأعمال مستشرق بإزاء تراث المذهب الآخر، ثم لشعارات إسلاموفوبيا، إنما بعد تأطيرها مذهبياً، للنيل من أتباع المذهب الآخر.

(عن صحيفة القدس العربي)