كتاب عربي 21

عودة نظام الغريزة

1300x600
مصر على القول بالربيع العربي وبالثورة العربية ولذلك فإني أرى أن الثورة العربية للقرن الواحد والعشرين تعلمنا من دروسها القاسية الكثير وأهم دروسها حتى الآن أن الطموح الديمقراطي هو بالضرورة معاد في العمق الغريزي البشري الكامن في ذوات مرهقة بالخوف و الطمع. ومن الدرس نفسه نرى أن من عمل على  قرصنة الثورة وإطفاء إزهار الربيع قد اشتغل على الغريزي فأثاره بالخوف والطمع فانتصر على كل النوازع الخيرة في هذا الربيع وسيظل يشتغل دوماً على نفس الخط الغريزي حتى يعيد الهبَّة إلى حالة شعب ذاهل يطمع في الأكل والنوم بسلام. كما كان العهد زمن الدكتاتوريات البغيضة.

لكن على هامش هذا الدرس يتزعم بعض قصيري النفس القول بأن الشعوب الجاهلة لا تُحكم بالديمقراطية بل يجب التعسف عليها لتعليمها الديمقراطية وهو مبرر من جنس ما سبق، يفتح الباب على التنصل من النضال والصبر على مكارهه الكثيرة. لأن نقل الناس من الغريزي (الطبيعي) إلى الديمقراطي (الثقافي) يمر حتماً بمرحلة تضحية ولها أثمان باهضة.

الجزرة والعصا تقنية حكم  غريزية

طالما نسب التونسيون للحبيب بورقيبة أنه كان يردد على مسامع المقربين منه المثل العربي القديم "جوع كلبك يتبعك". وحتى إن لم يكن قد قالها فهي جزء من ثقافة حكم تم تنفذيه على الأرض وأعطى نتائج  تتجلى الآن للعيان. الخريطة الانتخابية لسنة 2014 كشفت أن المجوَّعين في مناطقهم قد اتبعوا من جوَّعَهم ومنحوه الثقة الانتخابية. فعاد لحكمهم بنفس الأسلوب القديم: أي المزيد من التجويع للمزيد من الإخضاع. وبالتوازي مع ذلك بسط بورقيبة الجزرة الحلوة للبعض الآخر فانتصر بهم إذ متعهم بفائدة الحكم وجعلهم في حالة انتظار أبدي للمزيد. وفي الجهتين نرى أن الحكم عمل على استثارة الغرائز الدنيا. فحكم من خلالها بين شقين، شق طامع يرى كل عناد كلفته الحرمان من الفائدة وشق ثان خائف يتوجس أن كل عناد كلفته العصا. ملك عضوض لم يجدد فيه الزعيم المجدد أية بوصة تجعل حكمه منتمياً إلى زمن الحداثة السياسية التي كان شعبه يراها تنجز في الجوار الأوروبي فيحولها من خوفه ومن عجزه إلى فانتاسما جميلة.

لقد جرت انتخابات 2014 في تونس ضمن هذه الخطة القديمة المستعادة بسرعة فائقة فأعطت النتائج التي كان يمكن توقعها بسهولة لولا أن الخيال الجامح للديمقراطيين (أو العجز العضوي عن التوقع العلمي) تجاهل هذه الشروط التاريخية والثقافية من الموروث السلطاني الذي رسخه الزعيم تحت مسميات حداثية. صبيحة الخامس من جانفي عاد الجهاز القمعي لدولة الاستقلال إلى التحكم في مفاصل الدولة والإدارة  ووجد الناس (بكل أصنافهم) يلعنون النتائج متناسين المقدمات. تلك الانتخابات هي بنت فهم قاصر عن طبيعة النظام ووسائله وتلك النتيجة هي بنت تلك الانتخابات. وكم أن لعن النتائج مريح إذ يخفي تجاهل الأسباب. ولكن هناك مهرب آخر إلى الأمام سيزدهر في الأيام القادمة كجزء من تجاهل المشكل الحقيقي الكامن في آليات الفهم والتصرف الذي اتخذتها المعارضة  التونسية مما قبل الثورة بكثير.

استسهال لعن الشعب عمل غريزي

 سيزدهر في الأيام القليلة القائمة، وقد انطلق بعد خطاب لعن الشعب واستنقاصه ووصمه بالجهل والجبن. وهو خطاب مَهْرَبٌ وطوق نجاة يمكن قراءته كآلية دفاع ذاتي أمام حقيقة الوضع الكارثي الذي انتهت إليه هذه المعارضات المختلفة المشارب. الشعب جاهل نعم   وجائع نعم  لكنه قبل ذلك  مجوع ومجَّهَّل ينتظر  حلولا  سريعة  وآمالا  في المستقبل. وعندما كانت آلية الجزرة والعصا تعمل في الليل والنهار على إبقاء الجهلة في جهلهم و الجياع في جوعهم  كانت النخب المعارضة سابقا  والتي وصل بعضها للسلطة بأصوات هذا الشعب الجاهل نفسه  كانت تتخاصم على مغانمها الخاصة وتنسى أن عدوها القديم يواصل ممارساته بالتخويف  والتجويع وملوحا بأن كل شيء سيعود إلى  مكانه وينتقم ممن أزاحه. كان الجميع يرى ذلك ويتجاهله بل ربما ذهب البعض إلى محاولة قطف نتائجه انتخابيا معتقدا أن التخويف يتم لصالحه. لكن ماكينة التجويع والتخويف والوعد بالجنة عند الطاعة انتصرت الآن،  وعرف المترددون والطامعون في ورثة الآلة أخيرا أن المغنم لم يكن من نصيبهم لذلك ينقلبون إلى التبرير السريع بجهل الشعب الذي لم يخترهم في الاستحقاق الانتخابي.

الخريطة الانتخابية بمختلف محطاتها بينت أن القديم لم ينته بالثورة عليه. أي أنها أعادت كشف خريطة العصا والجزرة فالساحل والوطن القبلي المرفه الذي استفاد من العهد السابق  أعاد إنتاج  أسباب غناه ورفاهيته والاختراقات فيه لم تكن ذات دلالة سوسيولوجية  عن تحول ثقافي خارج  ثقافة الجزرة.  والشمال الغربي  ضحية العصا أعاد  إنتاج  أسباب قمعه وامتهانه وهو الذي رزح تحت نير القمع الاستعماري وقمع الدولة الوطنية  ثم خضع بسرعة للابتزاز  والرشوة  (طبعا ننسب بحجم الاختراقات الانتخابية).

مواجهة الخيبة الانتخابية لدى المعارضة السابقة للنظام لا تبدو في طريق نقد حججها وأسلوب عملها والتقدم على أرضية الاشتراك في الدفاع عن ملفات الثورة والديمقراطية  كملف الحريات والعدالة الانتقالية والتنمية العادلة. بل نستشعر أنها بعد شهر من الردة الانتخابية تراوح في مكانها القديم باتهام بعضها بعضا بالانهزام أمام النظام مع جرعة تزداد وضوحا باتهام الشعب في عقله و وطنيته.
إن أكبر علامة فشل سياسي يجب أن يقف أمامها سياسيون كثر خاصة وأنهم كانوا يزعمون الانتماء الجذري للشعب هو أنهم لم يفهموا شعبهم ولم ينتموا إليه فعلا وذلك لأنهم  لم يفهموا كيف اشتغل النظام السابق وسط هؤلاء الفقراء والبائسين وكيف أخضع بعضهم بالقوة وأطمع آخرين في العطاء فقسمهم فسادهم  وأعاد بسرعة  توظيف وسائله  بعد الثورة  فرمم صفوفه لمرحلة  أخرى قد تطول.

بث الوعي يحتاج مؤمنين بالمرحلة

ما هو الوعي المطلوب للمرحلة؟ ليست هذه نصيحة سياسية وإنما محاولة قراءة الفعل السياسي المعارض لعودة النظام. تفكك المعارضة سمح بعودة النظام وفي لعبة التحالفات وتقسيم الأدوار خرج النظام مرة أخرى رابحا لقد استعمل اليسار لإسقاط حكومة النهضة وحلفائها. ثم استعمل اليسار لإسقاط مرشح الشعب وقطع الطريق عليه. ثم عاد يستعمل النهضة لتشكيل حكومة مستقرة وزرع الفتنة بينها وبين مناصريها من غير المتحزبين. وهو يخرج رابحا من كل مناوراته التي يتقنها منذ زمن.
في حين تظل معارضته السابقة  مشتتة   تكيل لبعضها تهم التحالف مع النظام وهي في حقيقة الأمر تتسابق على مرضاته بسبل شتى. فضلا على أنها  لا تنتبه لمناوراته في التقسيم من أجل التحكم وفي تقسيمه المناطق إلى مناطق مخضعة بالقوة وأخرى مخضعة بالغنيمة.(الجزرة والعصا).
نقطة الضوء الوحيدة في هذا النفق السياسي الذي تدخله الثورة وأنصارها هو الموجة الشبابية التي   التحمت بمرشح الشعب المنصف المرزوقي فقد اجتمعت فوق الإيديولوجيات وفوق الحزيبات وفوق الظرفي الانتخابي مطالبة ربما بصوت لم يتجل بعد أن الثورة  تحتاج نخبا جديدة وقيادة جديدة بغير إعادة أساليب النظام وخارج خططه. وحتى تتبلور  تلك الرؤيا / الرؤية سنظل نحلل تفاصيل خطوات النظام ونتلذذ السخرية الافتراضية من الكاراكوز رئيس دولة لم نع كيف سلمناه مقاليد أمرنا بعد.