كان اليسار، وما زال، يرى في البنك وصندوق النقد الدوليين مخلبي قط للإدارة الأمريكية، للتسلل إلى دول العالم الثالث واستحواذ مواردها تحت غطاء تقديم المنح والقروض، وكثيرا ما تعالى هتاف "لن يحكمنا البنك الدولي" في المواكب الرافضة لخضوع الحكومات العربية لسطوة واشنطن..
الناظر إلى خارطة أوروبا الاقتصادية، يرى أن عمالقة التصدير والتصنيع فيها، هي الدول التي احتلت وحكما دولا في القارات الأخرى (ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا نموذجا)، بينما الدول الأوروبية التي لم تمارس "الاستعمار"، مثل اليونان ورومانيا والتشيك وبلغاريا تتأرجح ما بين العالمين الثاني والثالث،
يشهد السودان حاليا انهيارا متسارعا في قطاع العقارات، فبعد أن تعذر توفير القوت والعلاج والتعليم داخل البلاد، عمد الآلاف إلى بيع عقاراتهم والهرب بعوائد بيعها إلى مصر وتركيا، وبسبب كثرة المعروض من المباني للبيع، تضاءل الطلب عليها ونجم عن ذلك هبوط حاد في أثمانها..
ما يؤكد أن النظام الملكي البريطاني يعرف الأصول أن عبد الفتاح البرهان سافر إلى لندن للمشاركة في تشييع إليزابيث إلى قبرها، فجاء توصيفه في قائمة الزوار على أنه "قائد عسكري السودان"، ولم يخصصوا له مكانا في طابور رؤساء الدول الذين قدموا لتقديم العزاء..
سقط حكم البشير وآلت الأمور إلى البرهان الذي لا يعنيه من أمر الحكم سوى مظاهر الفخفخة والتباهي بعديد النياشين التي على صدر بزته العسكرية والتي لم ينل أيّاً منها من محاربة عدو، وها هو ينسف ما تبقى من كيان الدولة رافعا شعار "أنا ومن بعدي الطوفان"..
إن البرهان وساعده الأيمن ولد حمدان (حميدتي)، سيجعلون السودان في خبر كان، لأن ضعف الحس الوطني وقصر النظر السياسي عندهما يجعل منهما قوة ذات قدرات تدميرية هائلة..
ما كان للبرهان أن يبقى في قصر الحكم عشرة أسابيع ـ دعك من عشرة أشهر منذ انقلابه الأخير ـ لولا أن معارضته بأيدي ساسة قصيري النظر، عيونهم وقلوبهم على الخبز، ويهملون أمر الطحن والعجن حسب الأصول المرعية..
اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أفغانستان وهي تجر أذيال الخيبة، بعد أن جاهدت طوال عشرين سنة (2001- 2021) لهزيمة خصمها ـ حركة طالبان وتثبيت حكم وكلائها الأفغان، وراح ضحية التدخل الأمريكي في أفغانستان زهاء 180 ألفا..
رشدي (وهو ينطق اسمه هذا بفتح الراء وتسكين الشين، أي أن اسمه هذا ليس من الرُّشد الذي هو نقيض الغيّ)، لم ينكر صراحة أن غايته من "آيات شيطانية" كانت الطعن في كتاب ورسول المسلمين، بل خرج إلى المنابر الإعلامية ليعلن أنه "ملحد متشدد"..
لأن البرهان وكما جميع الانقلابيين نهّاز فرص، فقد بات واضحا أنه على استعداد لـ"بيع" شيخ المبادرة، ففي إطار تقاسم الأدوار بينه وبين ولي عهده محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أوعز للأخير بالزعم أنه لم يسمع بالمبادرة، بما يمثل "خط الرجعة" بالتنصل منها..
الثورات تتعثَّر وتتعسَّر، إما بسبب الكيد والبطش أو بسبب قلة خبرة من يشعلونها في مراحل ما قبل وما بعد الانتصار، ويعلمنا التاريخ أنه ما من ثورة تمشي في خط مستقيم، ولهذا كثيرا ما تتوه في منعطفات وتنتكس عند منحنيات بعينها، ولكنها لا تموت تماما..
حل حميدتي بدارفور في نهاية حزيران/ يونيو المنصرم، ليس لأن الإقليم ما زال ينزف، ولكن لأنه ينتمي إلى الجزء الجنوبي منه، ويريد مغازلة أهل الأجزاء الذين عانوا من ويلات الحرب الأهلية، ليصبحوا أنصاره، وهي مهمة يباركها لوردات الحرب الذين اشتراهم البرهان..
فشلت مساعي البرهان طوال الشهور الماضية في تكوين حكومة مدنية صورية يتحكم هو وكبار الجنرالات فيها، بتجريدها من الكثير من الصلاحيات التنفيذية، فكان أن أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الجاري عزوف العسكريين عن عضوية مجلس السيادة،.
لم يجد البرهان بُدَّاً من ارتداء جلباب القبيلة، فتوجه خلال عطلة عيد الأضحى إلى قومه وعشيرته في ولاية نهر النيل، وجمع نفرا منهم في خيمة كبيرة ووقف أمامهم خطيبا بنفس لغة الشحن العاطفي التي يستخدمها عند مخاطبة الجند..
لأن البرهان شأنه شأن الطغاة يستخف بالجماهير ولا يحسن من ثم قراءة الأحداث، حسب أن الملايين التي لم تتوقف قط عن رفض حكمه العسكري منذ انقلابه الأخير، ستتهافت على الطُّعم المتمثل في التلميح بخروج العسكري من دواوين الحكم المدني.
كان البرهان يدرك أن ذلك الخميس سيكون بداية تصعيد حازم وحاسم ضد سلطته الانقلابية، بعد أن نجحت قوى المعارضة في التوافق على ميثاق الحكم في فترة ما بعد سقوط نظامه، وكان الرجل يدرك أيضا أن العناصر المدنية التي استتر بها انقلابه في 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021 رخوة وهشة..