توفي
محمد الطالبي عن سن تجاوزت الخامسة والتسعين عاما. هذا الرجل النحيف والقصير وصاحب الوجه الحامل لعلامات البراءة، لم يكن شخصية عادية، خاصة في الفترة الأخيرة من عمره. لقد شغل التونسيين ببعض آرائه، خاصة عندما أعلن أن الخمر ليس حراما.
لم يكن ذلك مؤشرا على انفلات عقلي بحكم تقدم السن أو دعوة للتنصل من الأخلاق الدينية. فالرجل كان على غاية من الاستقامة والعفة، وإنما توالدت الآراء التي عبر عنها طيلة السنوات الأخيرة نتيجة المنهج الذي التزم به في فهم النصوص الإسلامية.
كان الطالبي مؤرخا من الطراز الرفيع، يوثق في علمه ومعرفته، وتمثل أطروحته عن الأغالبة مرجعا متكاملا عن مرحلة هامة من تاريخ تونس. ورغم أنه تحمل مسؤولية رئاسة اللجنة الثقافية إلا أنه لم يكن من بين أفراد الصف الأول أو الثاني من المسؤولين في نظام الحكم، وهو يؤكد أنه لم ينتم إلى الحزب الدستوري الحاكم يومها.
كان رجل علم وليس رجل سياسة. ومع ذلك حصل له تحول كبير في حياته عندما اصطدم بالرئيس بن علي الذي جعل الكثيرين من الأشخاص العاديين أو البعيدين عن شؤون السلطة معارضين شرسين له ولحكمه.
فجأة انقلب هذا الرجل الهادئ والبعيد عن الأضواء إلى شخصية متمردة على المنظومة الأمنية القبيحة والتي لم تتورع عن إذلال الآلاف من التونسيين. وبلغ الأمر بمحمد الطالبي أن تحدى بن علي في تصريحاته، وتمنى أن يرزقه الله الشهادة على يديه. ولكن نظرا لمكانة الرجل العلمية، ولسنه تم الاكتفاء بمحاصرته أمنيا والتضييق عليه وعلى كتبه وتنقلاته.
آمن الطالبي بما سماه بالمنهج السهمي لفهم القرآن. والمقصود بذلك التوجه مباشرة لمقاصد الأحكام من أجل إخضاع كل الآيات لتلك المقاصد. ولم يكتف بذلك، بل بحكم طول معاشرته لمناهج التحقيق في الروايات، انتهى به الأمر إلى التشكيك في جزء كبير من الأحاديث المنقولة عن الرسول، فتخلى عنها، ولم يعد يرى فيها نصوصا ملزمة في الدين.
وهكذا وجد نفسه قريبا من أولئك الذين سموا أنفسهم بالقرآنيين. وبذلك أصبح في حل من المنظومة الأصولية والفقهية القائمة والمهيمنة على الفضاء الديني ببعديه السني والشيعي. ومن هنا لاقت آراء عديدة له اعتراضا شديدا من الأوساط الدينية داخل تونس وخارجها.
كما اصطدم الرجل بالحركات الإسلامية من الإخوان إلى حركة النهضة. وكان يؤكد باستمرار على كونه لا يثق في راشد الغنوشي، ولا يطمئن للقول الشائع بأنه قد تطور في مواقفه الدينية والسياسية.
وقد بقي الطالبي إلى آخر لحظة في حياته يشكك في النزاهة الفكرية للإسلاميين، ويعتبرهم سياسيين يستعملون الإسلام كأداة للوصول إلى الحكم، وهو ما أثلج صدور العلمانيين، رغم أن الطالبي ليس علمانيا بالمعنى المتعارف عليه في العالم العربي.
لقد حافظ على مواقفه تلك رغم أن قادة الحركة الإسلامية بقوا يتجنبون الاصطدام به بحكم مكانته العلمية وصدقه في الدفاع عن الحريات في عهد بن علي وبعد الثورة، ولهذا لم يكن مفاجئا مشاركة بعض قادة حركة النهضة في مواكب جنازته.
كان مفكرا حرا، قد تختلف معه، لكن لا يمكن لأي شخص موضوعي إلا أن يحترمه ويرى فيه شخصية استثنائية في الوسط التونسي.
كانت هناك خشية على حياته في السنوات الماضية عندما تصاعدت حدة التعصب والجهل في أوساط بعض الشباب المتدين. وقد كفره البعض وكتبوا ذلك على جدران بيته، وهو ما زاد من مخاوف الذين يحبونه ويحترمونه، بمن في ذلك كثير ممن لا يشاطرونه أفكاره.
والحمد لله أن موته كان طبيعيا ولم يكن قتلا متعمدا، لأنه لو حصل ذلك لكانت له تداعيات خطيرة على أجواء الحرية الدينية التي يتمتع بها التونسيون حاليا، والتي ازدادت رسوخا بعد التنصيص في الدستور على حرية الضمير.
كان الطالبي محقا إلى حد ما عندما انتقد بعنف الخطاب الديني السائد. وكان له أسلوب خاص لتجنب سماع خطب الجمعة التي كانت تلقى في أحد المساجد القريبة من بيته. كان في كل جمعة يأخذ سيارته ويتجه إلى القرب من المسجد.
ويبقى في داخلها، حتى إذا رفع الآذان للصلاة، ينزل من سيارته وينظم لجموع المصلين ليشاركهم الصلاة فقط. وعندما سئل عن السبب أجاب "حتى لا أسمع مزيدا من الجهل".
مات رحمه الله. وعلى ذكر الموت سأله أحد المنشطين المشهورين في برنامج تلفزي قبل أشهر "هل تخشى الموت ؟". انفجر الطالبي ضاحكا، وأجاب "لماذا أخاف ؟ ألم أعلم منذ أو ولدت بأني سأموت ؟ هو نوم عميق سيوقظني الله بعده ؟ أنا أحب الله ولا أخاف أن يعذبني في النار كما هو رائج بين الناس. من يحب الله عليه أن يطمئن". ثم التفت إلى الشباب الحاضر بالأستوديو ودعاهم إلى حب الله.
إنه إيمان شبيه بإيمان كبار المتصوفة، يجمع بين الحب والعقل والحرية. رحمه الله. وفي لحظة من لحظات الزمن الرباني سنعرف جميعا الحقيقة الضائعة عنا الآن..
ويكفي أنه كان أول عميد لكلية الآداب في تونس عام 1955.