تصدير:
1-" من غير المقبول تجييش الشارع لمنع تمرير قانون المصالحة"
الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية التونسية
2- "إما الفساد..وإما الدولة..وأنا-مثل كل التونسيين- قد اخترت الدولة"
يوسف الشاهد، رئيس الوزراء التونسي
بشيء من الفرح المشوب بالحذر استقبل التونسيون والتونسيات الأخبار المتلاحقة حول إيقاف العديد من الشخصيات "المشبوهة" والمنتمية إلى العوالم "الموازية" للمال والإدارة. جاءت تلك الأخبار في وقت بلغت فيه الأزمة بين الحكومة من جهة أولى وبين معتصمي الكامور من جهة ثانية مستوى خطيرا من الاحتقان بعد تدخل وحدات الأمن ووفاة أحد المعتصمين دهسا بسيارة أمنية. وقد أتبع ذلك انفلاتات تمثلت في الاعتداء على بعض المقار الأمنية والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة. ولكنها ممارسات تبرّأت منها تنسيقية الاعتصام التي بقيت مصرة على سلمية تحركها وعلى أنه شكل من الأشكال المشروعة لتحسين شروط التفاوض مع الدولة وليس شكلا من أشكال استضعافها أو تهديد وحدتها الترابية.
كان فرح التونسيين والتونسيات بتلك الإيقافات أمرا مفهوما في سياق أغلب ما فيه يدعو إلى السوداوية ويحث الخطى نحو الإحباط والانهيار. فالمواطنون متهيؤون نفسيا للاحتفاء بكل نقطة ضوء قد تصادفهم في النفق الذي أدخلتهم فيه سياساتٌ ومشاريع قوانين لا شعبية كان محصولها ضرب الثقة بين الحكّام والمحكومين. أما الحذر فله أسباب مشروعة ليس أقلها أهمية توقيت التوقيفات والمعنيون به من جهة أولى، ونظرة المواطنين للدولة وأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية. ولن نجد تعليلا أفضل لتلك النظرة السوداوية تجاه أجهزة الدولة مما ورد في التقرير الأخير ل"مجموعة الأزمات الدولية "InternationCrisis Group، وهو تقرير صدر يوم 10 ماي 2017 بعنوان: الانتقال المعطل: فساد وجهوية في تونس "La transition bloquée : corruption et regionalisme en Tunisie
هل نحن أمام استراتيجية تلهية؟
بحكم تزامن الإيقافات مع انسداد الوضع في الكامور من منطقة تطاوين وبلوغ المفاوضات بين الحكومة والمعتصمين طريقا مسدودا، وبحكم إصرار النظام على تمرير مشروعه المشبوه للمصالحة الاقتصادية والمالية، كان الغالب على التونسيين هو تفسير ما حدث بالاعتماد على إحدى الاستراتيجيات المنسوبة خطأ إلى المناضل اليساري وعالم اللسانيات ناعوم تشومسكي: استراتيجية التلهية.
للوهلة الأولى، تبدو هذه الفرضية مغرية وذات قدرة تفسيرية عالية. فالدولة التي تصر على تمريرقانون المصالحة مع أعمدة نظام المخلوع، لا يمكن أن تكون جادّة في مواجهة شفيق جراية أحد بارونات الاقتصاد، ولا يمكن أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع شبكات الفساد والتهريب المسيطرة على الاقتصاد الموازي (مع ما فيها من تضامنات جهوية وعلاقات استخباراتية ومصالح اقتصادية كبيرة مع جهات إقليمية نافذة).
لكنّ هذه المقدمات ذاتها تجعل من فرضية التلهية فرضية مستبعدة. فالتلهية يمكن أن تتم بعيدا عن "الحيتان الكبيرة" أي باستهداف العناصر الأضعف في الحلقات المافيوزية أو حتى العناصر متوسطة القيمة، كما أن التلهية يجب أن تدار بطريقة تمنع الذهاب إلى نتائج غير متوقعة أو غير مقصودة. ولا يعني ذلك واقعيا إلا منع تشكل جبهة داخلية ضد موضوع التلهية (كما حصل مع رجل الأعمال المثير للجدل كمال اللطيف الذي "حاولت" الدولة إيقافه زمن الترويكا ولكنّ جبهة قانونية ومدنية وإعلامية تشكلت للحيلولة دون تجاوز الأمر البعد "المشهدي" المحض).
هل تكفي الإيقافات لبناء الثقة بين الدولة والمواطنين؟
مهما كانت الدوافع الحقيقية للإيقافات الأخيرة فإنها خطوة إيجابية يمكن البناء عليها لاستعادة ثقة المواطنين في دولتهم وأجهزتها التي تكاد تتحول في وعي الناس إلى "أجهزة مافيوزية بامتياز". فغلبة الزبونية والجهوية والمعايير اللاعقلانية من جهة أولى، وسياسات النظام لإعادة إنتاج المنظومة القديمة ومنطقها المافيوزي من جهة ثانية، كل ذلك أفقد المواطنين ما تبقّى لهم من ثقة في أجهزة الدولة بعد أن استعادوها في المراحل الأولى التي أعقبت الثورة.
بصرف النظر عن هوية "المسؤول الكبير" الذي يقف وراء حملات الإيقافات الأخيرة، فإنها ستكون مجرد حدث عابر وبلا تآثير في مسار تفكيك شبكات الفساد (بل ستكون خطوة للشك أكثر في الحكومة وخضوعها لمصالح اللوبيات لا لمنطق الدولة) ما لم تسندها جملة من القرارات الأخرى. فالمتأمل في "هوية" الموقوفين وطبيعة أنشطتهم ومنحدراتهم الجهوية يقف على جملة من المعطيات التي نكتفي بذكر أهمها:
-رغم أن القضية الأساسية التي شغلت الرأي العام منذ الثورة هي الفساد في قطاع الطاقة، فإننا نلاحظ عدم تحرك الدولة في هذا الملف والحال أن تأزم الوضع في الكامور كان يستدعي منطقيا ورمزيا الانطلاق من تخفيف الاحتقان ولو جزئيا بإظهار جدية الدولة في التعامل مع هذا الملف الحارق.
- طالت أغلب الإيقافات (إلى حد كتابة هذا المقال) شخصيات مرتبطة بالتهريب والتجارة الموازية ولا تنتمي إلى "البيوتات الكبرى" المسيطرة على الاقتصاد "القانوني". ولا شك في أنّ محاسبة بعض المنتمين إلى "النواة الصلبة" للمنظومة الحاكمة منذ الاستقلال سيعيد ثقة الناس في الدولة وسيبيّن أنها ليست مجرد أداة تنفيذ في أيدي تلك "البيوتات" المنتمية أساسا للساحل وللعائلات "البلدية" التي طبعت البنية الجهوية للنظام التونسي.
-لا يمكن لأي عاقل إلاّ أن يصاب بضرب من الانفصام أو "التناقض الذاتي" إذا ما صدّق أنّ حكومة تصر على تمرير قانون "المصالحة" مع أركان منظومة الفساد "الممأسس" يمكن أن تكون جادة في محاربة الفساد، اللهم إلا ذلك الفساد المرتبط بالاقتصاد "اللاشكلي" أو الاقتصاد الموازي. وهو ما يعني أن على الحكومة أن تسحب قانون المصالحة نهائيا من لجنة التشريع العام في المجلس النيابي (لا أن تجمد النظر فيه وتؤجله إلى وقت غير معلوم)، كما أن عليها أن تعيد النظر في علاقاتها "الصدامية" والتعطيلية لأعمال الهيئات العليا دون استثناء.
الرهانات الوطنية والإقليمية
هل يمكن لبلد لا يملك أبسط مقومات السيادة والاستقلال في قراره الوطني أن يأخذ خطوة "إصلاحية" بهذا الحجم دون أن تكون مسبوقة بدعم صريح أو على الأقل بموافقة ضمنية من مراكز القرار الدولي والإقليمي؟ إنه سؤال مشروع، وقد تساعد الإجابة الدقيقة عنه في رفع الإلغاز الذي يرتبط بالإيقافات الأخيرة.
يعلم الجميع العلاقات الوثيقة التي تربط رجل الأعمال شفيق جراية بعبد الحكيم بالحاج في ليبيا (ويعلم الجميع ميل الحكومة التونسية-رغم الحيادية الزائفة- إلى المحور المصري-الإماراتي بقيادة حفتر)، كما يعلم الجميع أنّ جراية هو الممول الأبرز لنداء تونس (شق حافظ قائد السبسي إبن رئيس الجمهورية والقائم على استمرار سياسة التوافق مع حركة النهضة). بل إنّ هناك من يعتبر جراية رجل المحور القطري-التركي في تونس.
لا شك في أنّ الفرضية الأخيرة –إن صحت- تجعل من الحملة على الفساد في تونس جزءا من الإملاءات التي جاء بها الرئيس التونسي بعد عودته من المؤتمر الأمريكي-العربي-الإسلامي بالرياض. فعدم تحرك الحكومة تحت الضغط الشعبي وتحت ضغط الجهات المانحة التي اشترطت مقاومة الفساد لإصلاح الاقتصاد (بل لتسريح أقساط القروض التي تعهدت بتقديمها لتونس) وتحركها مباشرة بعد قمة الرياض يجعل من المشروع افتراض أن تكون الإيقافات مرتبطة بسياسات دولية ترسم خارطة طريق جديدة للانتقال الديمقراطي في تونس (خارطة تحتاج إلى ضرب تقاطعات التهريب والإرهاب لكن بصورة محدودة ومراقبة جيدا)، ومن المرجح أن يكون ذلك كله جزءا من"توافقات" دوليةتعدّ تونس للقيام بدور هام في التحولات الكبرى التي قد يعرفها الجار الليبي أو "الأخت الكبرى" الجزائر.
في المستوى المحلي، يمكننا أن نقول بأن حملة الإيقافات الأخيرةسيكون لها تأثير كبير في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. ففي المدى المنظور، سيستفيد نداء تونس -رغم كل مشاكله الداخلية- من هذه الحملة لتحسين قدراته التنافسية خلال الانتخابات البلدية التي من المنتظر إجراؤها قبل نهاية السنة. أما في المستوى المتوسط، فإن هذه الحملة قد تدفع بيوسف الشاهد إلى أن يكون أحد المرشحين البارزين لوراثة الباجي قائد السبسي في رئاسة الجمهورية. ولكنها فرضية تبقى فرص نجاحها مرتبطة بموازين القوى داخل نداء تونس وبجملة من المتحولات المحلية والإقليمية التي لا يمكن حصرها بصورة دقيقة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ تونس.
هل للفساد "جناحان" كما للتوافق جناحان؟
من "البديهيات" التي تحكم السجال العام (حتى عند الكثير من النخب) خضوع تونس لـ"قطبي فساد" أو لشبكتين رئيستين من شبكات الفساد التي تتحكم في جميع مفاصل الدولة وأجهزتها المختلفة. إننا أمام مبدأ تفسيري يختزل "منظومة الفساد" وتعقداتها كلها في شبكتين يفترض بنا أن نصدّق أنهما المتحكم الفعلي في الشأن العام. لذلك قد يكون علينا أن ننطلق من مساءلة هذه البديهية والتفكير بعيدا عن إيحاءات السردية المهيمنة. فمن المؤكد أنّ منظومة الفساد "الممأسس" الذي تحوّل منذ عهد المخلوع إلى سياسة دولةتتلاعب بعقولنا بأكثر من صورة، وقد يكون "إيماننا" بوجود شبكتين للفساد، وايماننا بأن شفيق جراية وكمال اللطيف يقفان على رأسيهما هو مظهر من مظاهر ذلك التلاعب.
لمّا كانت غابة الفساد أكبر مما يريدوننا أن نرى منها، فإنّ من حقنا أن نتوجّس خيفةً من ألاّ تكون حملة الإيقافات الأخيرة جزءا من سياسات الدولة في محاربة هذا الداء المعرقل للانتقال الديمقراطي وللاستقرار السياسي ولكل محاولة لتغيير منطق توزيع الثروة والتداول على السلطة على أساس أكثر عدلا . ولكنّ هذه المخاوف لا يجب أن تمنعنا من "المساندة النقدية" للحكومة. وهي مساندة "نقدية" لأنها لا تتماهى مع الخطاب الرسمي ونسق حجاجه، كما أنها "نقدية" لأنها تمثل قوة اقتراح ينتبه إلى "المسكوت عنه " أو "اللامفكر فيه" في سياسات الحكومة (من مثل احتياج محابة الفساد إلى الانطلاق من الدوائر العليا لصنع القرار من خلال التزامها الطوعي بالعمل ضمن الحدود الدستورية والقانونية، ومن مثل احتياج محاربة الفساد لإصلاحات جذرية في منطق السياسة وأخلاقياتها قبل أن تتنزل في كل القطاعات دون استثناء)..
وللحلم بقية.