يحتفظ
التونسيون بسؤال ساخر من لقطة إشهارية بُثّت في الثمانينيات تسأل فيه الحفيدة جدها (
بابا عزيزي) عن وجهة سيرهما فيقودها إلى محل محدد حيث كان يجد بغيته منذ زمن طويل ليثبت إخلاصه لسلعة جيدة يوفرها تاجر مخلص.
التونسيون يسألون الآن جدهم رئيس الدولة وين ماشيين؟ وجدهم التسعيني يجيب من إخلاصه لمذهبه ومحتده. لكن الإجابة لا تجعل الأحفاد يبتسمون بإعجاب كما في اللقطة الإشهارية إياها. فيظل السؤال (وين ماشيين؟) مطروحا وليس الجد العجوز من سيقدم الإجابة الشافية.
الحيرة في أوجها والجمهور مذهول لكن الثابت الأوضح أن الرئيس يرتب الوضع بعجالة سارق لكي تبقى السلطة بين يديه أو بين يدي أسرته فلا تضار أبدا ولذلك يؤبد طبقته وثقافتها ويدق الأسفين في ظهر من تجرأ يوما على القول الشعب يريد إسقاط النظام.
الرئيس هو النظام أو هو علامته الأبرز للعيان وتلك وجهته وليس على الشعب الطفل حرج فقد قام بما عليه من الثورة إنما الحرج على عقلاء لصوص جلسوا مع الشعب فسرقوا ثورته وجلسوا مع الرئيس يأكلون فضلة مائدته. عن تونس بعد سبع سنوات من الثورة أتحدث.
يقال إن بابا عزيزي سينظم انتخابات
صورتنا صورة شعب ذاهب إلى انتخابات لكن الهاربين من الموعد أكثر من الساعين إليه. تُختلق عوائق في الطريق من جهات كثيرة ليصبح الموعد الانتخابي لاغيا أو يدخله الناس بشروط غير ما يحتاجون إليه. كما فُعل بهم سابقا.
الاستقطاب المستعاد حداثة ضد رجعية علمانية ضد دينية تقدمية ضد خوانجية. رغم أنها انتخابات بلدية ولن تؤثر في السياسات التشريعية ولن تمس خيارات البلد الأساسية ولكنها مجرد تنظيم للحياة اليومية في المناطق الحضرية.
رغم لذلك فلا سبيل لشق الرئيس وقطاع الطرق من حوله أن يربحوها إلا بإثارة النعرة إياها والسعي بين الناس بالتخويف والترهيب من الظلامية الرجعية المعادية للحرية دون التصريح بأن الحرية المعنية تعني تشريع المثلية الجنسية فكيف يمكن الذهاب إلى الانتخابات البلدية عبر تشريع المثلية الجنسية هذه من العجائب التونسية في زمن بابا عزيزي الذي يعرف وين ماشيين.
نميل إلى الاعتقاد أن العجوز وصل إلى قناعة جديدة هي نهاية تحالفه/ توافقه مع حزب النهضة الإسلامي الرجعي الظلامي ويعرف الآن أنه لن يمكن لحزبه أن يربح بمواصلة هذا التوافق. لذلك يدفع إلى كسره.
وإعادة بناء توافق آخر مع حلفاء قدماء تقدميين دوما يستعادون فقط على قاعدة الاستقطاب إياه. وهم دوما في انتظار الإشارة وها قد صدرت الإشارات الجلية قبل الانتخابات البلدية.
لقد خلنا التوافق رغم عوائقه قد ألغى إمكانيات عودة الاستقطاب وأن التنافس سيخاض بعده على قاعدة أفكار وبرامج، لكن هنا اتضحت حيرة التونسيين ليس للنخب الحاكمة من فكر جديد.
ولذلك يطرحون القضايا الخلافية القديمة فتتجدد الأسئلة الحائرة (وين ماشيين؟). الماكينة تدور على نفسها وترحي نفس الطحين فلا نسمن ولا نغتني من جوع. هنا تونس التي لا تفلح في الخروج من أزماتها لأن نخبتها كسيحة ولا هم لها غير التمتع بالسلطة أما سبل الوصول إليها فتجيز كل الموبقات.
مناورة الاندماج النهضاوي هل تنتج تقدما على طريق كسر الاستقطاب؟
دخلت النهضة معركة أخرى فيها بعض الإجابة عن السؤال الحائر (وين ماشيين؟) إنها تقترح حلا يبدو لي ذكيا، ولكن نتائجه هي نتائج كل مغامرة غير مضمونة العواقب. فتحت النهضة قوائمها الانتخابية لغير المتحزبين. نصف القوائم النهضوية سيكون من غير المنخرطين في الحزب. رهان الحزب هو استقطاب قوم من غير قومه.
قراءتها قائمة على أن هناك فئة من التونسيين لا تعادي النهضة ولا تصادقها أيضا ولكنها تبحث عن دور فعال لم تفلح بقية التكوينات الحزبية في استقطابه لأنها غير بعيدة على قاعدة الاستقطاب بمعاداة النهضة بما ذلك جزء كبير من الطيف الديمقراطي غير الاستئصالي في الظاهر.
تريد النهضة توسيع قاعدتها الانتخابية والاندماج في النخب المحلية. هذا ما أعلن في مؤتمرها العاشر. الرهان على ضم فئات غير استئصالية بعد استحالة كل لقاء مع اليسار وبعد تبين سوء نية النداء في مواصلة التوافق القائم بعد تشريعية 2014. الحيلة النهضوية لا تخلو من ذكاء، ولكنها أيضا مفيدة لغير النهضويين بما يجعلها بعض إجابة عن السؤال الحائر (وين ماشيين؟)
وجه الجدة فيها أن معركة كل التونسيين مع النهضة يمكن أن تنتهي فهي معركة الخسارات الجماعية. كان هناك أخدود يحفر باستمرار بين التونسيين والإسلاميين كلما ظهرت محاولات ردمه وتجسيره عملت السلطة واليسار بكل طوائفه على إشعال نيرانه ودام ذلك زمنا خسر فيه الجميع وخسرت الديمقراطية.
مناورة النهضة الآن بإدماج المستقلين يؤشر إلى احتمال تجاوز هذا الأخدود بإنهاء معركة مدمرة للشعب وللديمقراطية. يمكننا أن نحلم ببلديات يديرها تونسيون من مشارب غير إسلامية صرفة ومن مشارب غير يسارية صرفة وخاصة بمنجاة من تجمعيين يعتبرون أنفسهم ملاك البلد دون شريك أو منازع.
هل تنجح المناورة وتؤتي أكلا ديمقراطيا؟ هي مغامرة محفوفة بمخاطر كثيرة لأن الفرز ليس سهلا فالتسرب ممكن جدا (الانتشار النهضوي في القاعدة يعتبر ضمانة جيدة) ولكن حتى الآن بدت لنا هذه الحركة هي الوحيدة المجددة في أفق سياسي مأزوم ويستعيد لعبة الاستقطاب القذرة المدمرة على أساس هووي.
وين ماشيين؟
يود المرء أن يستفيق ذات صباح ليجد التونسيين منكبين على قضاياهم الحقيقية في التنمية والتعمير والبناء وأن يستعيدوا مدرسة متميزة وأن يطمئنوا على مستقبل أولادهم فلا تصير الهجرة السرية أفقا وحيدا أمام الشباب. لكن بابا عزيزي لا يحب أن يفهم الشعب الذي إعاده إلى الحياة بعد موت طويل.
إنه يفكر دوما كما فكر في الخمسينات ركوب السلطة وقتل المنافسين بسبل قوة الدولة والأجهزة نفس المدرسة ونفس الأساليب ونفس الموقف القائم على احتقار الشعب. لذلك لم يكن مهتما بردة فعل الناس وهو يختار وزراء فاسدين يلاحقهم القضاء ليكلفهم بإدارة مرحلته.
باب عزيزي يحقر شعبه لذلك فالسؤال لا يجب أن يوجه له. بل على الشعب أن يوجه السؤال إلى وعيه الخاص. فالحل لن يأتي من علياء قوم تربوا على أن هذا الشعب غبار من البشر يمكن عجنهم وخبزهم بماء وسخ.