كتاب عربي 21

النظام الوقفي العصري… بلا أيديولوجيا

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
كانت غرفة مهجورة ومتهالكة تفترشها ملفات تتبع وزارة أملاك الدولة قرب محطة أرتال الضاحية الشمالية في العاصمة تونس. هي مكان حفظ أرشيف ملفات "إدارة الأحباس" التي تم حلها زمن بورقيبة. كان ذلك في ربيع 1998، وكان أول احتكاك مباشر لي في سياق علمي مع موضوع الوقف أو "الحبس" في القاموس المغاربي.

كان حال أرشيف الأحباس محزنا وضعيف الاستغلال حينذاك من الناحية العلمية. هو في الحقيقة مؤشر على ما حاف بهذا الملف من فوضى وتعامل لامنهجي فيه الكثير من الأيديولوجيا والتسييس والنوايا المبيتة. بين استنساخ التجربة الوقفية الإسلامية وتسويقها تحت عنوان المنظومة الوقفية الغربية وبين معارضة أي "قانون للأوقاف" على أسس العداء الأيديولوجي لأي مصطلح إسلامي حتى لو كان مضمونه عصريا. 


أعيد طرح موضوع الأوقاف في تونس هذا الأسبوع من قبل رئيس حركة النهضة في سياق إمكانية أن يكون مبادرة تشريعية لكتلة حزبه في البرلمان. التصريح بدا للبعض محاولة للرد على مبادرة الرئيس السبسي حول المساواة في الإرث بين الجنسين خاصة أن ذلك بدا استفزازا لقواعد الحزب الإسلامي الأول في تونس، شريك السبسي في الحكم. ومثلما حصل سنتي 2012-2013 عندما تقدمت الحكومة بمشروع قانون للأوقاف إلى المجلس التأسيسي، كان مصدر القانون وليس مضمونه هو جوهر النقاش: حيث تم الحكم على المبادرة بانها ذات طابع أيديولوجي إسلامي بدون مناقشة مسالة الوقف من وجهة نظر عصرية. 


يفرض علينا موضوع الوقف في تونس مقاربته منهجيا من زاوية تاريخية. فبعد قرون من دخول نظام الأحباس إلى شمال أفريقيا بادرت الدولة الحسينية في آخر سنواتها تحديدا منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى إلحاقها بالمصالح الإدارية العامة بعد أن كانت في سياق المبادرة الخاصة ومأسستها عبر وضعها تحت أشراف المجلس البلدي للحاضرة تونس، ثم أصبحت منذ سنة 1874 تحت أشراف "جمعية الأوقاف" التي أسسها الوزير الأكبر خير الدين.

وبعد سنوات قليلة من التجريب الإصلاحي انتهت الجمعية إلى تأثير مباشر لمصالح النخبة الفاسدة التي مهدت للاحتلال إذ كانت تشرف على مئات آلاف الهكتارات من الأراضي الفلاحية. وهكذا أصبحت سمعتها تحت الاحتلال محل شبهات، وهو ما سهل ليس استهدافها فحسب بل استهداف مضمونها، أي فكرة الوقف نفسها. 


 وهكذا ألغت الدولة التونسية قانون الأوقاف الإسلامية في تونس رسميا بتاريخ 18 يوليو/ تموز 1957، بأمر من آخر بايات تونس، وبموافقة الوزير الأكبر آنذاك الحبيب بورقيبة، وذلك قبل أسبوع من إعلان النظام الجمهوري وإلغاء حكم الأبيات في تونس. غير أن عملية الإلغاء لم تتم على ما يبدو بشكل منهجي وعلمي. وقد أدلى وزير الفلاحة الأسبق في بداية دولة الاستقلال مصطفى الفلالي بشهادته التاريخية حول موضوع الوقف في تونس فتحدّث عن أنّ التجربة في تونس تعرّضت لسوء الاستعمال وسوء التوظيف وقال انه كان من الأولى أن يتمّ إصلاح المؤسسة الوقفية والاستفادة من عائداتها لا أن يتمّ إلغاءها والاستغناء عنها كما وصف الفيلالي قانون إلغاء الوقف بـ”العملية الآثمة”.


لنعد الآن إلى مشروع قانون الأوقاف الذي تم طرحه سنة 2012 ويضم 159 فصلا أنجزته لجنة بعد 17 جلسة (من21 أبريل إلى 02 يوليو 2012) وتضمّن أبوابا تقدّم الأحكام العامة (من الفصل الأول إلى الرابع) وإنشاء الوقف (من الباب 5 إلى 31) وآثار الوقف (تمتد على ستة أقسام) منها لزوم الوقف وشروط الواقف (من 32 إلى 38) والتزامات الواقف (من 39 إلى 40) والاستحقاق في الوقف (من 41 إلى 62) وصيانة الوقف وعمارته (من 63 إلى 67.) والنظام القانوني للأموال الموقوفة (68 إلى 72.) والمعاوضة النقدية والعينية وتضمّن (من 73 إلى 90.) إضافة إلى باب نظارة الوقف الذي ينقسم إلى نظارة الوقف الخاص (من 91 إلى 100.) ونظارة الوقف العام والمشترك (من 101 إلى 118.) ويضاف إلى ذلك باب آخر يتعلق باستثمار الأموال الموقوفة وينقسم الكراء (من 119 إلى 132.) والمغارسة (من 133 إلى 135.) واستغلال الغابات والمقاطع (الفصل 136.) وصيغ استثمار أموال الوقف وتنمية موارده (من 137 إلى 141.) وباب آخر يتعلق بانقضاء الوقف (من 142 إلى 151.) وأحكام انتقالية وختامية (من 152 إلى 159.)

وعموما يتمثل اهم مضمون القانون في أحداث مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية تسمى “الأمانة العامة للأوقاف” كما نص المشروع على ضرورة أن يتم إنشاء الوقف عبر قنوات رسمية وبحضور عدول أشهاد ولا يكون بطرق فردية و غير منظّمة كما أكّد المشروع أنّ الوقف لا يكون نافذا ولا تترتّب عليه آثار قانونية إلا بعد توثيقه في الأمانة العامة للأوقاف كما نصّ المشروع على أنّ انقضاء الوقف لا يكون إلا بمحضر يحرّره قاضي الأوقاف ويوثّق لدى الأمانة العامة وفيما يتعلّق بكيفية استغلال الوقف فهناك العديد من التفاصيل.

أمّا المجالات التي يمكن أن تستثمر فيها عائدات الوقف فهي عديدة ومتعيّرة تفرضها حاجيات الناس وطبيعة مشاغل المجتمع. وما أوضحه مشروع قانون الأوقاف هو أن عملية الوقف تخضع للضّوابط القانونية ولرقابة الدولة وليست متروكة للتصرّف الفردي.

بهذا المعنى فإن هناك اختلافا واضحا بين المنظومة الوقفية العصرية الغربية Trust system والمقترح الحالي الذي يحاول عصرنة منظومة الأوقاف Waqf system. إذ يضعه أساسا ضمن إدارة حكومية جديدة بالتنسيق مع منظومة قضائية مخصوصة، قضاء الوقف، ويضعه تحت أشراف الدولة أساسا. يجب هنا أن نحدد اهم ملامح الاختلاف بين منظومة الوقف الإسلامية وتلك العصرية الغربية.

سأعتمد هنا على دراسة للباحثة مونيكا غوديوزي منشورة سنة 1988 في دورية جامعة بنسلفانيا للقانون تقوم فيه بمقارنة منظومة الوقف الإسلامي بوقف يخص احد كليات جامعة أكسفورد وهي كلية ميرتون الذي يعود إلى سنة 1274، الذي يعدّ الحجر التأسيسي لمنظومة التعليم العالي الحديث الأوروبي. القواسم المشتركة بين منظومة الوقف الغربية وتلك الإسلامية هي أن كل وقف يعتمد على ثلاثة عناصر (المصطلح الأول إسلامي والثاني غربي): "واقف" ("مؤسس")، "متولي" ("الوصي")، "القاضي" ("القاضي"). والمستفيدين في إطار المنظومتين يتمتعون: "بحق الاحتفاظ بالممتلكات ومنافعها المخصصة، لصالح أشخاص معينين، أو هدف خيري عام؛ ويصبح الجسم غير قابل للتصرف، ويمكن إنشاء عقارات على مدى الحياة لصالح المستفيدين المتعاقبين بغض النظر عن قانون الميراث أو حقوق الورثة، والاستمرارية مضمونة من خلال تعيين المتعاقدين." 

أما نقطة الاختلاف الأساسية فهي "التغيير الصريح أو الضمني للوقف نحو الأغراض الخيرية عندما لم يعد غرضه الأصلي وموجودا". بالمناسبة، تزامن تطور الوقف الغربي مع الحروب الصليبية دفع بعض الباحثين للحديث عن تأثير إسلامي في القانون الغربي. 
 
1
التعليقات (1)
عبد الرزاق الجملي .... تونس
الثلاثاء، 05-09-2017 07:28 م
الرجاء التوسع قليلا في شرح مشروع قانون الوقف المعروض من طرف شيخ النهضة ومقارنته مع التجارب المشابهة في الغرب حتى يتمكن ذوو التعليم المحدود مثلي من فهمه