منذ إعادة انتخابه للمرة الثانية على رأس الحكومة الإسرائيلية، وبنيامين نتنياهو يعطي اهتماما ملحوظا لسياسة بلاده الخارجية والانفتاح على دول كثيرة؛ بغية تحسين العلاقات وإيجاد أسواق جديدة للصادرات الإسرائيلية، من أهمها سوق السلاح.
هذه المرة، قرر نتنياهو الذهاب إلى أمريكا اللاتينية، حيث يلتقي رؤساء دول كل من: الأرجنتين والمكسيك وكولومبيا، وهي زيارة تعتبر الأولى من نوعها لرئيس وزراء إسرائيلي إلى هذه المنطقة، فضلا عن أنها تحمل دلالات وتأتي في توقيت حساس بالنسبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية.
أولا، وقبل كل شيء، ثمة سياسة واضحة لدى نتنياهو تتصل بالانفتاح وتكوين صداقات متينة مع دول مؤثرة في المشهدين الإقليمي والدولي، وسبق له أن توجه شرقا وزار الصين لتأمين علاقة جيدة مع قيادة بكين، وهي علاقة من شقين استهدفت الاستثمار في السياسة والتجارة البينية.
قبل عام وشهرين تقريبا، حط هذا النتنياهو في القارة السمراء، حيث التقى بقادة أربع دول إفريقية، هي: إثيوبيا ورواندا وأوغندا وكينيا، ومن هناك أعلن عمق العلاقات التي تربطه بإفريقيا، في إشارة إلى أنه سيمضي قدما بتحسين وتطوير هذه العلاقة.
وكثيرا ما زار نتنياهو روسيا والتقى رئيسها فلاديمير بوتين؛ لكونه يعلم أن موسكو لها ثقل على الصعيدين الدولي والإقليمي الشرق أوسطي، وقبلها كانت له زيارات كثيرة لأوروبا الغربية وبعض دول أوروبا الشرقية، لكن نتنياهو قرر هذه المرة الذهاب إلى أمريكا اللاتينية.
ثانيا: زيارة نتنياهو إلى النصف الأسفل من قارة أمريكا تصب في إطار تحسين صورة إسرائيل أمام تلك الدول، خاصة في ظل جمود عملية السلام والانتقادات الكثيرة التي صدرت عن إدارة الرئيس السابق أوباما ضد إسرائيل، بسبب مشروعاتها الاستيطانية في الضفة الغربية.
ثالثا: نتنياهو حين يفكر في مصلحة إسرائيل، فإنه يشتغل على الطريقة «الحكوتجارية»، بمعنى أن أكثر ما يهمه هو ضمان عدم مأزقة بلاده وحشرها في الزاوية الدولية، لكنه أيضا يهتم في كيفية اكتشاف أسواق دولية أمام المنتج الإسرائيلي.
حين ذهب إلى الصين وروسيا وإفريقيا في السابق، لم يذهب نتنياهو وحده بل أخذ معه جيشا من السياسيين والعسكريين والاقتصاديين وأصحاب الشركات، لأن طموحه يتجاوز الحديث عن الإطار السياسي فقط، ولأنه يأخذ بعين الاعتبار انتشار إسرائيل سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والرغبة في وصول منتج «صنع في إسرائيل» إلى العديد من دول العالم.
قبل ذهابه إلى أمريكا اللاتينية، قال نتنياهو بمناسبة عيد رأس السنة العبرية الجديدة، إن بلاده تقوم حاليا بتطوير العلاقات مع أمريكا اللاتينية التي «تشكل كتلة كبيرة تضم دولا ذات أهمية بالغة، إننا ندخل ساحة جديدة».
نعم، لقد دخل رئيس الحكومة الإسرائيلية ساحة في غاية الأهمية، كما حصل حين اخترق ساحة إفريقيا، وساحة أمريكا اللاتينية ستعود عليه بالفائدة، خصوصا في ظل تغيرات سياسية طرأت على الأنظمة الحاكمة في تلك الدول.
وفي ظل أزمة الحكومات اليسارية التي اتهمت بالفساد، وصعود اليمين واليمين الوسط في أمريكا اللاتينية إلى الحكم، أصبحت العلاقات الإسرائيلية مع تلك الدول أكثر إيجابية عن السابق، ذلك أن تل أبيب تنظر بعين الاهتمام إلى البرازيل والأرجنتين تحديدا.
هذا الاهتمام في البرازيل انطلاقا من كونها الدولة الصاعدة والأقوى في أمريكا اللاتينية، ولها حضور بارز في الأجندة العالمية، وأما الأرجنتين فعدا كونها دولة مهمة ونامية، فإنه يعيش فيها حوالي 300 ألف يهودي، يعتبرون أكبر جالية يهودية في أمريكا اللاتينية.
رابعا: تدرك حكومة تل أبيب أن تقليص مساحة المناورة السياسية على الصعيد الدولي سيفقدها الغطاء الذي تلبسه، حتى لا تنكشف عورتها أمام العالم وتنفضح نتيجة مشروعاتها العنصرية وممارساتها غير الأخلاقية في فلسطين المحتلة، وهي بالذهاب إلى أقصى العالم تسعى إلى فرملة نمو حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي أضرت بإسرائيل على المستويات كافة.
غير أن توقيت زيارة نتنياهو إلى تلك الدول يتزامن مع ارتفاع الصوت الداخلي من احتمال توجيه تهم فساد له ولزوجته على خلفية فساد مالي وتحايل وخيانة الأمانة العامة، ذلك أن الشرطة والنيابة العامة الإسرائيلية سبق أن وقّعت، الشهر الماضي، ما يسمى باتفاق «الشاهد الملك» الذي يحيل لتلك الأجهزة التحقيق مع المدير السابق لطاقم مكتب نتنياهو آري هارو بخصوص ضلوع الأول في قضايا فساد.
وكعادته حين تحدث مأساة أو مشكلة على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، يحدث أن يجد رئيس الحكومة حلّا في ابتداع موضوع لتحويل أنظار الرأي العام الإسرائيلي عن تلك المشكلات، وهذه المرة تخرج «سفرة» أمريكا اللاتينية باعتبارها الحل السحري لإنقاذ نتنياهو من ورطة شبهة الفساد.
اللافت هو أنه بعد انتهائه من زيارة أمريكا اللاتينية، سيواصل رئيس الحكومة الإسرائيلية رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يلتقي الرئيس ترامب على هامش افتتاح اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعقد بعد أيام.
وليس من المستبعد أن يكرر نتنياهو الخطاب نفسه الذي ألقاه أمام أعضاء الأمم المتحدة العام الماضي، لكنه هذه المرة سيحاول إشعال الحماسة من على منصة الجمعية العامة، وسيحاول التركيز على رواية أن إسرائيل هي الضحية «ليلى» وأن فلسطين هي «الذئب».
طالما أجاد هذا الرجل الاصطياد في المياه العكرة، واقتناص كل الفرص الممكنة للهروب من المآزق التي تلاحقه وتلاحق إسرائيل، ففي النهاية سيفعل المستحيل من أجل تحسين وتعظيم دور ومكانة الدولة العبرية، حتى لو استعاد كل خطبه التحريضية والانتهازية وصنع منها خطابا يجرم الفلسطينيين بحجة أنهم من يرفض السلام.
على أن كل ذلك يحدث والعرب «نائمون في البصل»، فهم غير مهتمين بنشاط إسرائيل إن على صعيد المحافل الدولية أو على صعيد وضعها الداخلي، فقط كل ما يهمهم هو التركيز على أوضاعهم الداخلية وتناقضاتهم التي تستهلك من قوتهم يوما بعد يوم.
ومرة أخرى تصف إسرائيل زيارة نتنياهو إلى أمريكا اللاتينية بالتاريخية، وطالما أنه وصل إلى تلك البقعة من العالم، فليس من الصعب عليه أن يصل إلى أي مكان يريده في ظل معادلة الولايات المتحدة من خلفه والعرب من «أهل الكهف».