هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نطرح السؤال عن المستقبل الفعلي للدستور التونسي، وهل سنراه يوما محترما ممن صفّق له يوم إصداره. فالمشاهد اليوم أن الذين يخترقونه أكثر من الذين يعودون إليه ويحتكمون إلى نصه ومعناه.
ويبدو أن هناك فئات من التونسيين لن تثوب يوما إلى رشد قانوني، وتحتكم إلى نصوص مرعية، سواء منها الدستور أو القوانين المنظمة للتعايش المدني السلمي في دولة مدنية في القرن الـ21. إذ تتالى علينا مشاهد الإقصاء والتحقير، ونتابع معارك سياسية لم تصل يدها السلاح بعد. ولكن نشعر أحيانا، من غيرة على البلد، أن الوضع على شفير هاوية؛ لا ندري متى يتفجر العنف فنسقط.
اليسار يمنع منتسبين لحزب النهضة من دخول منطقة سليانة..
والبورقيبيون يمنعون المرزوقي من دخول إذاعة للقاء إعلامي
تونسيون ممنوعون من تونس!
وقائع متطابقة. ذات مضمون واحد وفاعلون متطابقون. اليسار يمنع منتسبين لحزب النهضة من دخول منطقة سليانة؛ معتبرين إياها منطقة محررة من "الخوانجية".. والبورقيبيون، أو من تبقى منهم حيا، يمنعون الرئيس السابق الدكتور المرزوقي من دخول إذاعة للقاء إعلامي؛ معتبرين أن منطقة المنستير منطقة بورقيبية خاصة بهم. أما حرية تنقل المواطنين على أرض وطنهم المضمونة بالدستور فلم يعد إليها أحد من هؤلاء، وهو ما يعيدنا إلى جوهر النقاش المؤسس: هل يؤمن التونسيون بدستورهم ويحترمون اتفاقاتهم المبرمة بينهم علنا وتحت أنظار العالم، لا سرا ومراكنة؟
هل يوجد جامع بين من يقوم بالطرد وبين المطرودين من وطنهم؟
ما الذي يجمع فصيلا يساريا إلى شرذمة باقية من البورقيبيين من متوهمي التفوق العرقي على بقية التونسيين؟
في ظاهر الأمر لا جامع بينهما، مثلما أنه لا جامع بين المرزوقي وبين حزب النهضة (بعد انكسار التحالف السياسي الظرفي القديم)، ولكن بواطن الفعل ودوافعه جمعت من يكفرون بالدستور ومن يؤمن به.
الخاسرون من دستور الحريات كشفوا وجوهم عارية
وصارت المعركة بين أنصار الدستور وأعدائه
وتبين الصفان بوضوح: الخاسرون من دستور الحريات كشفوا وجوهم عارية، والذين يفعّلون الدستور ويحاولون تطبيقه بانوا لمن يرى. وصارت المعركة بين أنصار الدستور وأعدائه، حتى أنه يمكن القول إن المعركة السياسية، والتي كشفت وجها عنيفا وإقصائيا، تجري الآن بين الدستوريين الجدد، أو أنصار الدستور الجديد، وبين ما قبل الدستوريين، أو الرجعيين الجدد، وهم من يتسلح بالعنف بعد ضد قوانين التأسيس المدني في بلد واحد بدستور واحد. وهذا ينذر بمعركة طويلة؛ لأن الصفين يملكان وسائل الحرب الطويلة.
عودة إلى المربع الأول..
وَهْمُ التقدم المتدرج الذي صنعناه وعشنا به منذ تم الاتفاق على الدستور، والذي جعلنا نتحمل مرحلة ما بعد انتخابات 2014 على أنها مرحلة تمهد رغم ما شاب الانتخابات من تزييف إلى ما بعدها، وأن حال التونسيين ستتقدم في السلم الأهلي نحو ديمقراطية مستقرة تزول شوائبها بالتدريج، كل ذلك بدا لنا بعد الحادثين خديعة ذاتية مارسناها على أنفسنا. فما زالت فصائل من التونسيين تعيش خارج هذه المرحلة، وتعمل على إعادة التونسيين إلى مربع العنف والإقصاء.
فصائل من التونسيين تعمل على إعادتهم إلى مربع العنف والإقصاء
لقد كنا نتجادل مع كثير من قيادات حزب النهضة وأنصاره على أنهم يفرطون في تخويف أنفسهم وجمهور حزبهم من الإقصاء اليساري، ونذهب إلى أنهم يختلقون هذه الحجة لتوليف قواعد الحزب حول التحالف مع النظام القديم (ممثلا في حزب النداء)؛ بغية جني مكاسب مادية وسياسية غير مقبولة أخلاقيا، وكانوا يردون بأن اليسار التونسي لم يتغير، وأنه مستعد دوما لتعنيفهم، وأنهم لا يزالون في موضع الضحية التي كانت في زمن بن علي (سنوات التسعين)، حتى قدم لنا اليسار حجة دامغة على تخوفات النهضويين خاصة، والإسلاميين عامة.
قدم لنا اليسار حجة دامغة على تخوفات النهضويين خاصة والإسلاميين عامة
الذين أظهروا هذا الوجه العنيف والإقصائي
فاقدون للمروءة، ولا يحتكمون إلى منظومة القيم
يوجد بصيص أمل رغم ذلك..
ليس لأعداء الدستور رجال. هذه قناعة تتشكل يوما بعد يوم. فالذين أظهروا هذا الوجه العنيف والإقصائي، سواء في حادثة سليانة أو في حادثة المنستير، فاقدون للمروءة، ولا يحتكمون إلى منظومة القيم التي نظمت حياة الناس قبل الدستور ولا تتناقض معه. فليس من المروءة والنخوة في شيء أن يتم طرد مواطن من بلاده أو منعه من الكلام (المثل الشعبي الجنوبي يقول: لا ينبح على من يقدم إليه إلا الكلب). لا ضير من الاختلاف، فهو مخصب ومفيد تحت سقف الحوار والتناظر، لكن الذي حصل هو قطع دابر الحوار والتعايش. ولذلك فالإقصاء يعزل أصحابه ويدفعهم إلى زاوية النسيان. وحتى إذا كان الإقصائيون قادرين في لحظة ما على توظيف مؤسسات الدولة (وزارة الفلاحة) ومؤسسات المجتمع المدني (النقابة)، فإن ذلك إلى زوال، فتوظيف النقابة يكشف يوما بعد آخر أنها بتحويلها إلى أداة حزبية تفقد شرعيتها، وينفض الناس من حولها، وهم ينتهون الآن، وفي قطاعات واسعة مثل التعليم، إلى أن النقابة مختطفة ولا تقوم بدورها النقابي، وهذا وعي جديد سينتهي إلى استعادة النقابة من خاطفيها ولو هربت من عقد مؤتمراتها وحصرت الاشتراكات بين جمهور الخاطفين.
أما البورقيبيون فقد صاروا إلى سخرية التاريخ، فقد استعانوا بحنانة لمجابهة بروفيسور الطب الذي يعرف كيف يفتح دماغا بشرية ويعالجها. والحَنَّانَةُ عند التونسيين امرأة (عادة تكون عجوزا محترفة) مهمتها تهيئة العروس لزوجها قبل الدخول بها، فتنقي الشعر من جسدها وتزينها بالحناء. وقد اكتشفنا أن ذكرا حنانة قد صار بقدرة قادر مديرا لإذاعة خاصة، وهو من قاد التصدي للدكتور مرزوقي ومنعه من مخاطبة الناس عبر إذاعته. ويكفي هؤلاء أن ليس لديهم رجل يعترض برجولة أو يجادل باقتدار، وقد كان بودّنا أن يجادَل الدكتور مرزوقي من قبيل مناظر كفؤ له، ولكن أنى لهم برجل يعرف أقدار الرجال؟
هنا يوجد بصيص أمل لقد فقد الإقصائيون الرجولة والرجال، سيستلم الدستور رجاله ويحملونه إلى التحقق بقوة السلم الأهلي والزمن، والآفات تأتي الآن على كل الرجعيين الجدد.