هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تباينت وجهات النظر في التعاطي مع قرار إعفاء الملك لأربعة وزراء من حكومة سعد الدين العثماني والغضب على خمسة وزراء سابقين وحرمانهم من أي منصب سامي في المستقبل، ما بين مرحب بها معتبرا أن الملك أعطى مضمونا سياسيا للمقتضى الدستوري المرتبط بربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن المسؤولين بعد هذا القرار سيتحسسون رؤوسهم إن لم يكونوا في مستوى المسؤوليات الملقاة عليهم، وبين من يعتبر أن الأمر مجرد قرار تنفيسي يقصد به استدراك أخطاء ارتكبتها الدولة في مقاربتها لحراك الريف وأنها بذلك تصدر أزمتها إلى الحكومة، وتقدم بعض أعضائها ككبش فداء وفي الوقت ذاته، ترتب خارطة السياسة على قاعدة استرجاع الهوامش التي ضاعت منها لحظة الحراك الديمقراطي.
والحال، أن قرار الإعفاءات، جرى على نسق دستوري، حاول فيه العاهل المغربي ما أمكن احترام الإطار الدستوري، بدءا بإحالة تقرير لجنة الداخلية والمالية إلى المجلس الأعلى للحسابات، وتمكينه من فرصة زمنية زائدة من أجل التمكن من إنجاز التقرير المطلوب، ثم ترتيب الجزاء بناء على مقتضيات الفصل 47.
أي إن القرار الملكي تم ضمن رقعة ملعب السياسة ووفقا لقواعد اللعب، وليس خارجها، وأن الملكية في المغرب تستنفد كل الإمكانات التي يتيحها النص الدستوري لكي توسع أو تفعل صلاحياتها الدستورية، وتستدرك بالسياسية ما تقدر ما ضاع منها أو ما أظهرت الديناميات السياسية بعد اقتراع 25 نوفمبر أنه لم يكن يخدم مصحلتها.
عمليا، وبالدخول في تفاصيل التقرير، فإن العطب الأساسي في مشروع منارة المتوسط لا يرجع إلى أداء وزراء، وإنما يتمثل في عطبين اثنين: عدم وجود نظام للقيادة، واعمومية المشروع وعدم تبنيه لبرامج تفصيلية مستندة إلى بيانات ودراسات مدققة.
بخصوص نظام القيادة لاحظ بتقرير المجلس الأعلى للحسابات أن المشروع لم يسند إلى رئيس الحكومة لتتبعه، ولا إلى وزير الداخلية، وإنما أسند إلى لجنة مركزية (مشتركة بين وزارة الداخلية ووزارة المالية) لم تختر رئيسها سنة كاملة، كما اسند إلى مجلة محلية تحت رئاسة عامل إقليم الحسيمة، وأن اللجنة المركزية هي التي تكلفت بالتنسيق مع القطاعات الوزارية.
مضمون هذه الملاحظة، أن الوزراء - بصفتهم متدخلين في هذا المشروع ومساهمين فيه - سيصبحون متابعين من قبل مجرد موظفين في وزارة أو في عمالة إقليم الحسيمة، وهذا ما دفع المجلس الأعلى للحسابات في توصيات تقريره إلى الدعوة لإصلاح نظام حكامة هذه المشاريع بإسنادها إلى وزير الداخلية بصفة رسمية.
طبعا، لا نريد التعليق على هذه التوصية والتي تخالف الملاحظة التي أشارت إلى وضعية رئيس الحكومة بإزاء هذه المشاريع، لكن، ما يهمنا في هذا الصدد، هو أن نقيس هذا العطب البنيوي إلى تصرفات وزراء تسببت في إقالتهم، إذ أكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات بأن هؤلاء الوزراء لم يتورطوا في غش ولا اختلاس، وإنما أكبر ذنبهم أنهم إما فوتوا الجزء المتعلق بمسؤوليتهم في المشروع إلى وكالة الشمال وحولوا مخصصاتهم الملية فيه إليها، أو تأخروا في تحويل بعض من هذه المخصصات، هذا مع وجود نقاط استفهام كثيرة تتعلق بمسؤولية وزراء آخرين قاموا بنفس السلوك أو أكثر لكن لم يطلهم الإعفاء مثل ما طال وزراء آخرين.
هذه التفاصيل، تؤشر على خلاصتين مهمتين، الأولى أن الدولة كانت في حاجة لترتيب عقوبة سياسية من أجل تجديد الثقة مع منطقة انطلق فيها الحراك على خلفية مطالب اجتماعية وبلغ زخمه النضالي حد ضرب التوازنات السياسية وإقحام الملك في دائرة الاشتباك المحظور، والثانية، أنه كانت هناك حاجة لخلق دينامية سياسية جديدة، تزرع بعض الثقة التي تقلصت جراء تداعيات البلوكاج الذي استغرق ستة أشهر قبل إعفاء بنكيران، وأيضا لإنتاج سياق جديد يفتح الشهية لإعادة ترتيب الخارطة السياسية وفق شروط جديدة.
دعونا نترك التفاصيل جانبا، ونرسم صورة المشهد السياسي بعد قرار الإعفاءات، إذ حاصل هذه العملية، أن صارت الحكومة في حاجة لتعديل حكومي مفتوح على احتمالين: تعديل تقني يستعيد فيه حزب التقدم والاشتراكية وحزب الحركة الشعبية مقاعدهما داخل الحكومة باقتراح وزراء جدد، أو تعديل سياسي يفتح المجال لإعادة التفاوض من جديد على تركيبة الحكومية بما يعني خروج أحزاب ودخول أخرى، وتغيير في هندسة الحكومة وحصص كل حزب على حدة.
اليوم كل الاحتمالات ممكنة، لكن، ليس المهم بالنسبة للفاعلين الكبار في السياسة في المغرب أن يبقى هذا الحزب محتفظا بموقعه أو يخرج ويعطي الفرصة لدخول آخر، فهذه مجرد تفاصيل، لكن المهم هو الثمن االلازم دفعه لبقاء أحزاء الوزراء المعزولين في الحكومة، والثمن الذين يمكن لحزب العدالة والتنمية دفعه في حالة رغبته في مقاومة سيناريو إضعاف وزنه في الحكومة.
الذي يرصد مسار السياسة بعد خطاب العرش الذي وجه لوما قاسيا للأحزاب السياسية، يلاحظ أن عين الفاعلين الكبار على تغيير قيادات الأحزاب، والتحرر من إرث ما بعد استحقاقات 25 نوفمبر وبشكل خاص التحالفات التي نسجت على قاعدة محاربة الفساد والاستبداد، وذلك بخلفية أن المغرب يحتاج لنخب تكافح لتطوير النموذج التنموي وليس لنخب ترتهن لمنطق الصراع السياسي.
إذا صح هذا الرهان، فالسؤال الذي يمكن أن يفك شفرة التعديل الحكومي القادم، هو إلى أي حد يمكن لحزبي التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية أن يذهبا في اتجاه تغيير القيادات السياسية.
ثمة أكثر من سيناريو محتمل، الأول، أن يفهم حزب التقدم والاشتراكية أن قيادته هي المعنية بهذه الدينامية، ويتجه لاتخاذ قرار بالخروج من الحكومة، وفي هذه الحالة، سيصعب مأموية العدالة والتنمية، ويمكن أن يتقوى موقع الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية، ويصير التعديل الحكومي السياسي هو خيار الفاعلين الكبار في السياسة، وهو السيناريو نفسه المحتمل إذا ما أصر حزب التقدم والاشتراكية إلى الإبقاء على أمينه العام والاستمرار في الحكومة، أما إن اختار التقدم والاشتراكية الانحناء للعاصفة وغير أمينه العام، وأصر على المشاركة في الحكومة، فيصير حزب العدالة والتنمية في وضعية أضعف، ويصير بالإمكان الضغط عليه أكثر لوضعه بين خيار البقاء في الحكومة أو بلوكاج جديد في حالة عدم رغبته في التخلص من قيادته في المؤتمر القادم.
لحد الآن لم يظهر في ديناميات السياسة شيء جديد، فالتقدم والاشتراكية أبديا نوعا من المقاومة، لكنهما أحالا القرار النهائي لبرلمانه، في حين لا يزال أمام العدالة والتنمية استحقاقان لاختبار مدى إصراره على الاحتفاظ بقيادته أو تغييرها: برلمان الحزب المرتقب انعقاده في أواخر شهر نوفمبر، ثم مؤتمره المرتقب انعقاده في الأسبوع الثاني من ديسمبر، ناهيك عن أن وضع الاحتقان الاجتماعي خف بشكل كبير، وأن الحراك في الريف بصدد تسويته، مما يعني امتلاك الفاعلين الكبار في السياسة بالمغرب لجميع خيوط إدارة السيناريوهات.