في عام 2000، اتخذت الحكومة
السودانية قرارا عجيبا تحت مسمى البكور، صار بمقتضاه الفارق الزمني بين التوقيت السوداني وتوقيت غرينتش ساعتين، بدلا من ثلاث ساعات كما يقتضي حساب الزمن، بحسب موقع أي بلد في ضوء أقرب خط طول الذي تقع عليه.
وبذلك، أصبح التوقيت في الخرطوم هو توقيت موسكو ذاته، ثم -وبعد سبعة عشر عام حسوما- لحست الحكومة ذلك القرار، واعتبارا من يوم الأربعاء الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر عاد السودان إلى منظومة التوقيت العالمي.
كان ذلك القرار العابث بتوصية من فرد "واحد"، يغلب الظن أنه كان يريد للسودان أن يكون "مميزا"، ولا يخضع لتوقيت دولة استكبارية هي بريطانيا، وقبلها كان وزير التربية السوداني، وكان شخصا لا صلة له بشؤون التربية والتعليم، قد اكتشف أن اللغة الإنجليزية هي لغة الاستعمار.
فقلص حصتها في المناهج، وطرد المعلمين البريطانيين الذين كانوا يعملون في المدارس السودانية، وتقرر تبعا لذلك جعل اللغة العربية لغة التدريس لكل المواد في الجامعات السودانية، دون أن يسبق ذلك أي قدر من التعريب لتلك المناهج.
لم تقدم الحكومة السودانية أي تبرير عقلاني ومنطقي لـ"تقديم" التوقيت ساعة كاملة، ولم تكلف نفسها عناء تقديم تبرير لتراجعها عن تلك الخطوة.
ومنشأ ذلك في تقديري هو أنها "واقعية" ولا تقيم وزنا لـ"الزمن/ الوقت"، بتأثير الجينات العربية في أقطابها ورموزها الكبار (سئلت أكثر من مرة، عن سبب التفشي الوبائي للطرف والنكات عن كسل السودانيين، فكانت إجابتي أن السودانيين أصيبوا بمتلازمة الكسل، بعد انضمام بلادهم للجامعة العربية، التي هي أكثر المنظمات الإقليمية خمولا وهمودا وركودا، حتى اكتسبت مناعة ضد التطور وحصانة ضد النشاط).
وربما يذكر بعضنا، كيف أنه عندما رأت الحكومات العربية أن الرفق بالإنسان يستوجب منحه عطلة أسبوعية مدتها يومان متتاليان، قررت معظمها أن تكون تلك العطلة يومي الخميس والجمعة، ولما طالب أهل الاقتصاد والمال والأعمال بأن تكون العطلة يومي الجمعة والسبت، صاحت تلك الحكومات: السبت؟ عطلة اليهود؟ ونحن في حالة حرب مع إسرائيل؟
وبعد مضي سنوات عدة على تجاهل ذلك المطلب، اقتنع الحكام بأن جعل السبت عطلة لن يؤخر تحرير فلسطين، بعد أن قال لهم بعض خلصائهم أن تعطيل العمل يومي الخميس والجمعة، يعني تعطيل التواصل مع الأسواق والبنوك الغربية طوال ذينك اليومين، "وإذا أضفنا إليها ساعات التواصل المفقودة بسبب فوارق التوقيت، تكون أسواقنا ومصارفنا عاجزة عن مثل ذلك التواصل لنحو أربعة أيام".
وكعب أخيل تلك الشريحة من الحكام، هو "البنوك الغربية"، حيث ينسج العنكبوت على حساباتهم السرية والمعلنة، فكان أن ألحقوا السبت بالجمعة، وربما قالوا في سرهم ما قاله فلاديمير لينين "من يسقط خطوة يسقط عموديا" عمن تراجعوا عن "ثوابت" الماركسية، وهكذا يبررون مغازلة إسرائيل التي هم في حالة حرب معها بحسب أرشيف الجامعة العربية، بمعنى أنهم اعتبروا جعل يوم السبت عطلة عربون مودة لإسرائيل.
غياب الوعي بقيمة الوقت، داء معد كجلمود الصخر ينزل من علٍ، ولأننا شعوب مبرمجة على الطاعة العمياء، و"إلا ...."!!
فنحن على دين ملوكنا، بالمعنى الحرفي للعبارة، ولأننا شهدنا كذا خطة تنمية خمسية تتحول إلى خمسينية، ونرى زعماءنا يقومون بزيارات مفاجئة إلى هذه الدولة الشقيقة أو تلك، فإننا نأخذ عنهم عدم إعطاء أي قيمة للوقت، ولا نرى بأسا في تأجيل عمل اليوم إلى الأبد، ونعمل بمقولة "باكر يحلها ألف حلّال"، وبهذا صرنا لا نعرف الفرق بين التوكل والتواكل
عندما يرى المواطن العربي مشروعا كان ينبغي أن يكون قد دخل حيز التشغيل في عام 2015، قد دخل في رؤية عام 2050، وعندما يزور الزعيم المفدى دولة جارة بدون سابق ترتيب، فإنه يعرف أن الزعماء الأشقاء "همهم فاضي وبالهم رائق ع الآخر".
فالواحد منهم لا يمكن أن يزور فرنسا أو البرازيل أو كندا، إلا بعد أن يكون الإعلان عن الزيارة قد تم قبل أشهر من الموعد المحدد لها، بينما زيارة الأشقاء تتم بـ"ألو فخامتك أنا جاي عليكم بعد كم ساعة، قلت اشرب معكم فنجان قهوة، ونتفاكر حول المواضيع إياها" فيأتيه الرد: يا هلا ومرحبا. أعطيني ألو بعد تصل المطار".
ولهذا، فإن الأخبار اليومية عن نشاط القادة العرب تكون في معظمها "أجرى/ تلقى اتصالا هاتفيا من أخيه..."، ويجب أن تتصدر تلك المكالمات الصفحات الأولى للصحف، باعتبار أنها نشاط في مجال السياسة الخارجية.
وسكب الكتاب الصحفيون حبرا بالطن المتري، وهم يعيبون على شعوبنا استخدام معايير عجيبة: الاجتماع بعد صلاة العصر، ونتريث ونصدر القرار بعد العيد، ونتقابل بعد صلاة العشاء (والساعة الرابعة فجرا تأتي بعد صلاة العشاء).
ولكن، وطلبا للسلامة، لا يجسر معظم أولئك الكتاب -وأنا منهم- على القول للزعيم المعني، إنه عدم احترامه للوقت والزمن دليل على عدم احترامه للشعب.
والشاهد أن الوقت عندنا من تراب، والتراب في ثقافتنا أرخص شيء، والسلعة زهيدة الثمن يقال عنها إنها بتراب الفلوس.
وبعد هذا كله فنحن فداء تراب الوطن، ولا تسأل لماذا نحن فداء شيء ذي قيمة متدنية.
والحديث عن الاستعداد لفداء تراب الوطن في غياب حقوق المواطنة لا يختلف كثيرا عن الهتاف الأجوف، الذي فبركه كورال تمجيد القيادات الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي: بالدم بالروح نفديك يا "دحدوح".