لابد أنك تلاحظ حالة السأم تلك التي يتابع بها الجمهور في
مصر، بأعين نصف مفتوحة وتثاؤبات ملولة، معركة المغنية
شيرين مع إعلام العسكر.
تلك المعركة التي بدأت بتصريح (منذ سنة) عن البلهارسيا التي ينشرها النيل. المشهد كما يبدو هو أن أحدا لا يصدق انفصال جزء من داعمي الانقلاب ليقف في وجه جزء آخر لتستعر بينهما معركة حول النيل. لا أحد يصدق هذه النوبة المفاجئة من الغضب التي كان من الأجدر تصويبها نحو المفرطين في مياه النيل.
الجميع أو الكثيرون إن شئت الدقة، باتوا يتابعون المشهد ولسان حالهم يقول (اطلعوا من دول).. كفوا عن التمثيل.. ماذا بعد.
طبعا هؤلاء يدركون أن الفيديو الذي أثار كل ذلك الغضب، هو من فيديو قديم أعادت جهة ما تدويره، وهؤلاء باتوا متمرسين في فهم هذه الألعاب، وأظن أن هذه الشريحة هي الأكثرية الآن بعد 4 سنوات مرت على الانقلاب.
بالطبع لا يعدم العسكر بعض المتابعين المخلصين الذين يحبسون أنفاسهم وهم يتابعون معركة شيرين، أو بعض الآملين الذين ربما أغراهم طول استثمار العسكر للمعركة المفتعلة أن يعتقدوا أنه ربما وقع تصدع ما في معسكر الانقلاب، وهي تحليلات أقرب للتمنيات منها للواقع.
ما بات يتفق عليه الكثيرون دون أن يجهروا به، أن ذلك الجزء المؤسسي الوحيد الذي أفلت من حالة التردي التي ضربت مؤسسات العسكر هو ذلك الجزء المسؤول عن التعامل مع عقول الشعب في مصر.
تلك البؤرة المسؤولة عن عمليات الإلهاء المستمرة، وعن الفقاقيع الإعلامية التي تطفو على السطح من حين لآخر، كلما كانت هناك كارثة يُراد تمريرها دون ضجيج.
الجديد هذه المرة، أو قل هذه المرحلة الزمنية، أن الجميع يدركون أن هذه المعارك تهدف للتغطية على فشل مفاوضات
سد النهضة، وأن حصة مصر ستتضرر بشدة، وأن مصر مقبلة على فترة مجاعات وقحط وربما تغير بالتدريج شكل الحياة فيها، عما ألفه الناس، نتيجة لتصحر أجزاء من الرقعة الزراعية المأزومة أصلا، ونتيجة لارتفاع الأسعار الذي سيتبع ذلك الانخفاض المفاجئ في حصة المياه التي صارت حلما بعيد المنال الآن.
وهنا، وقبل أن يصبح سد النهضة موضوع الساعة في مصر، وبدلا من أن ينتبه الشعب لإجابة أهم سؤال، هو (هل ما حدث نتيجة فشل أم أنه جزء من أجندة تخريب متعمدة ينفذها الانقلاب؟)، تهب تلك البؤرة المسؤولة عن التعامل مع مزاج الجماهير وتسيير دفة الإعلام وتوجيهه إلى إطلاق بعض فقاقيعها في الهواء.
والسبب في نجاح تلك التكتيكات، مرده إلى حالة الطمأنينة التي يتعامل بها الجميع، فعندهم (هكذا كان الحال قبل الصدع الذي أحدثته الثورات) أنه لا يمكن أن تكذب الصحف!
هي ذاتها الطمأنينة التي تجعل ذات الرداء الأحمر تقترب من جدتها المتدثرة بالأغطية على فراشها غير عالمة أنها الذئب متنكرا.
وعند هؤلاء المطمئنين، الصحف والشاشات لا تكذب والكلمة المطبوعة أو المسموعة أو المرئية لها مصداقية. التلفزيون لا يمكن أن يكذب، والحياة ليست بهذا الشر.
وهي وجهات نظر اتضح بعد الثورة أنها أبعد ما تكون عن الواقع.
فالحياة تمتلئ بهذه الشرور، وهناك بالفعل جهات تتآمر على الناس طوال 24 ساعة، بل إن هذه الجهات هي جزء من أدوات اللعبة السياسية.
وقبل أن يسأم الجمهور تلك المعركة، سيطلقون من جعبتهم لعبة جديدة للإلهاء، وسيصدقها البعض وسينكرها البعض، ويتابعونها وهم يتثاءبون.
وحين يستنزف الجميع جهودهم في متابعة تلك المعارك أو التثاؤب لمشاهدتها، تكون المجاعة الناتجة عن سد النهضة قد كشرت ببطء عن أنيابها، ويكون الجمهور قد اُرهق، وصار عاجزا عن الإتيان برد فعل.