يحتفل أصدقاؤنا الناصريون والقوميون هذا العام بمئوية ميلاد زعيمهم الكبير ج.ح. عبد الناصر (15/1/1918). واحتفاؤهم هذا العام ليس لمرور مائة عام فقط على ميلاده، ولكن لحاجتهم الشديدة إلى ظله وظلاله وسط هذه العتمة التي تعيشها الأمة العربية الخالدة الواحدة. فما تحياه الأمة هذه الأيام وتحتاجه يفوق أي احتياج آخر تتطلبه أي ضرورة. وأذكر حديثا للراحل ياسر عرفات؛ قال فيه لأحد أصدقائه إن كل المصائب تبدأ كبيرة ثم لا تلبث أن تخفت شيئا فشيئا، فتتضاءل وتصغر، إلا مصيبة فقد "الزعيم"، كل يوم تكبر وتزيد على اليوم الذي سبقه.
يقولون إن لكل جيل أوهامه وأكاذيبه التي يدين بها، وما تفرد بالهدى جيل. لكن أوهام وأكاذيب أصدقائنا عن المرحلة الناصرية قد أكدت الأيام والسنين أنها ليست مجرد أوهام وأكاذيب فقط، بل كوابيس الليل والنهار، وهزائم الشتاء والصيف، وانكسارات اليوم وكل يوم.
كثيرون كتبوا عن أكبر أكذوبة عاشتها مصر في العصر الحديث، لكن أحدهم لم يكن مبكرا باكورة الشاعر( صلاح عبد الصبور) الذي كتب قصيدة ممدودة المعنى والتاريخ، بمجرد إطلالة الرجل الذي نزل على صدر الأمة كجلمود صخر حط على سهل.. أنتم الناس أيها الشعراء حقا، كما قال شوقي.. تأملوا أبياته التي قال فيها: هل عاد ذو الوجه الكئيب؟/ ذو النظرة البكماء والأنف المقوس والندوب/ هل عاد ذو الظفر الخضيب؟ ذو المشية التياهة الخيلاء/ تنقر في الدروب!/ لحنا من الإذلال والكذب المرقش والنعيب/ ومدينتي معقودة الزناد/ عمياء ترقص في الظلام/ ويصفر الدجال والقواد والقراد والحاوي الطروب/ في عرس ذي الوجه الكئيب..
وما زالت هزائمه جاثمة على صدر الأمة.. هل تكفيه هزيمة كل يوم 5 حزيران/ يونيو 1976م؛ التي أفرخت كل الهزائم الفكرية والسياسية والثقافية والفنية والأخلاقية والاجتماعية؟
هذه الكلمات التي تنقر في القلب؛ كتبها صلاح عبد الصبور عام 1954م، وكان يقصد بها "الزعيم" بعد هزيمته للديمقراطية في أزمة آذار/ مارس الشهيرة، تحدث فيها عن الظفر الخضيب والخيلاء والإذلال والكذب المزرقش.. تحدث فيها عن المدينة العمياء التي ترقص في الظلام وتحدث عن الدجال والقواد والقراد.. الخ.
وما زالت هزائمه جاثمة على صدر الأمة.. هل تكفيه هزيمة كل يوم 5 حزيران/ يونيو 1976م؛ التي أفرخت كل الهزائم الفكرية والسياسية والثقافية والفنية والأخلاقية والاجتماعية؟ والمدهش غاية الإدهاش أن هناك من يتبع الرجل حتى اليوم، بل ويحتفون به وبمئويته، كأن ما اجترحه في حق الأمة كان مجرد خدش بسيط، لا جرحا عميقا نازفا بالألم والخيبة والمرارة والحسرات والمراثي وصدأ العيش، والحزن والأسى والنكسات والمأسي، والهزائم والذل والعجز والقهر والفقر والمرض.. وزد ما شئت مما تراه وتسمعه وتعيشه أمس واليوم.
توفيق الحكيم عام 1972م في كتابه الأصدق "عودة الوعي"، قال وقال: "لم يكن الرجل في يوم من الأيام سياسيا، ولم تكن له قط طبيعة رجل السياسة التي يملكها رجال اتصل بهم وعرفهم، مثل نهرو وتيتو.. نهرو قال له في عبارة رقيقة موحية بأنه يحتاج إلى قليل من الشعر الأبيض، كان يقصد قليلاً من الرزانة والحكمة والتجربة والوقار والأخلاق. استمر عبد الناصر في كرسي الحكم على
مصر والزعامة الناصرية على العرب جميعاً، تلك الزعامة التي خربت مصر ونكبت العرب. ونحن ليس لنا حيلة إلا التعلق به؛ لأنه جردنا طول الأعوام من كل فكر مستقل، ومن كل شخصية قوية غير شخصيته هو.. يومها كتب أ. هيكل ردا على الحكيم: "أبسط شيء يمكن أن يقال هو أنهم كانوا أشباحاً خائفة (يقصد فاضحي الهزيمة والرذيلة الناصرية) أشباحا ضعيفة.. من يملك الشجاعة لا ينتظر الموت ليمارس شجاعته..".. وزوار الفجر يا أستاذنا الراحل؟ من كان يملك الشجاعة ليواجههم وقد اقتربوا من مكتبك (الراحلة أ. نوال المحلاوى سكرتيرته) وأصدقائك أيضا؟
لكن الأستاذ الحكيم يرد عليه أمس واليوم وكل يوم: "أود من كل قلبي أن يسفرهذا البحث النزيه عن تقويم موضوعي للتجربة، ولكن هناك خسارة لا شك فيها ولا يعدلها عندي مكسب ذلك هو ضياع مصر".
تميز حكم ذي الوجه الكئيب بغياب مقومات الدولة المدنية تماما، وعلى رأسها احترام القانون واحترام حقوق الإنسان، فأصبحت الحريات والحقوق كلها عرضه لهجمة شرسة شديدة الطغيان، من إنشاء المحاكم الخاصة (كمحاكم الشعب والثورة والغدر والطوارئ)، وغرز في ظهر الوطن ما عرف بـ"التنظيم الطليعي" الذي كان يشبه الجستابو (الدولة العميقة الآن)، حيث الخوف والرعب والهلع والفساد والسرقة والانحراف، وتعددت أجهزة الرعب التي لم تتجه إلا للمواطن، ولم تتسع إلا لقمعه وإذلاله. ورغم مئات الملايين التي استهلكت على هذه الأجهزة، فقد فشلت فشلا مهينا في رصد الأعداء الحقيقيين لمصر، وكانت خيبتها أشد عندما وقعت هزيمة كل يوم 5 حزيران/ يونيو.
تميز حكم ذي الوجه الكئيب بغياب مقومات الدولة المدنية تماما، وعلى رأسها احترام القانون واحترام حقوق الإنسان، فأصبحت الحريات والحقوق كلها عرضه لهجمة شرسة شديدة الطغيان
أشبعونا بالأكاذيب حين قالوا إنه أتى بمجانية التعليم. وهذا محض هراء، فمجانية التعليم تقررت في الفترة الليبرالية قبل 52، فأصبح التعليم الابتدائي مجانا عام 1944، والتعليم الثانوى مجاناعام 1951، وكانت بمصر أربعة جامعات تخرج علماء، وليس كما حدث بعد عام 1952.. كان لدينا 140 ألف مؤسسة صناعية، وكان لدينا 578 نقابة معترف بها ولا تخضع لأي وصاية.
أشبعونا بالأكاذيب والأوهام حين تحدثوا عن الإصلاح الزراعي التي كانت تناقشه كل البرلمانات قبل 1952. جميع الأراضي الزراعية قبل البكباشى كانت تقريبا ستة ملايين فدان، تم توزيع 422 ألف فدان فقط على الفلاحين، وضاعت على مصر أكبر فرصة للتحديث الزراعى والميكنة في المساحات الكبيرة، وأصبح الفلاح يزرع فدانين وثلاثة جرجيرا وفجلا، بعد أن كان العالم كله يتجه للزراعات الشاسعة المساحة مع تقدم الميكنة الزراعية.
على أنه لا يمكن بحال التذرع بما يحققه النظام الدكتاتوري للشعوب من فائدة (وهل هناك فائدة واحدة؟). الاحتلال يا إخوتي يحقق منافع للشعوب التي يحكمها تبريرا لوجوده.. فالإنجليز أنشأوا شبكة سكك حديدية متميزة من بدايات القرن الماضي.. أقدم سكة حديد بعد سكك حديد لندن، ولا زالت تخدمنا حتى الآن. أيضا نفذوا مجموعة متكاملة من القناطر والترع، وأقاموا خزان أسوان، والغوا السخرة. لم يكن غرضهم خدمة مصر، بقدر ما كان لخدمة بقائهم، وهو نفس ما فعله البكباشي الذي جعل من المصريين جيوشا من الموظفين في دولته ليحكم الخناق على رقابهم.
في كل عصور الانحطاط التي مرت بها البشرية شهد الإنسان ألوان من التعذيب والاضطهاد لأسباب دينيه أو سياسيه أو اجتماعية أو فكرية، ولكنه لم يشهد أبدا تعذيبا بدون سبب، إلا لشهوة التعذيب، سوى في عصر الأوهام والكوابيس الناصرية..
في كل عصور الانحطاط التي مرت بها البشرية شهد الإنسان ألوان من التعذيب والاضطهاد لأسباب دينيه أو سياسيه أو اجتماعية أو فكرية، ولكنه لم يشهد أبدا تعذيبا بدون سبب، إلا لشهوة التعذيب، سوى في عصر الأوهام والكوابيس الناصرية.. وصمة عار لا تمحى.. الجريمة لم تستهدف فقط من هم خلف الجدران، لكنه الإنسان في كل مصر (كمشيش وكرداسة وسنقا عامي 1965 1966).
لم يخرج لنا في عهده مبدع واحد تلقى تعليمة ونما وترعرع في ظل حكمه.. كل ما شهدته الخمسينيات والستينيات من أسماء كبيرة تم غرسها الأول قبل 1952 (العقاد، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وأم كلثوم، وعبد الوهاب، مصطفى صادق الرافعي، والمراغي، وشلتوت، والغزالي، ومحمود غنيم، وباكثير...) جميع القضايا القومية انتهكت في عهده البائد.. وحدة وادي النيل التي انتهت بانفصال السودان عن مصر، والتي قال عنها النحاس باشا في وجه الإنجليز: "تقطع يدي ولا تفصل مصر عن السودان".. (تأملوا التوتر الجارى الآن بين أبناء الوادي) الوحدة المصرية السورية انتهت بانفصال سوريا عن مصر، ودخول سوريا إلى كهف الحكم الطائفي.. وفي اليمن، تسبب في قتل 200 ألف يمني، و15 ألف جندي مصري.. حتى تأميم شركة "قناة السويس" انتهى باحتلال إسرائيل سيناء ونصف فلسطين، واستشهاد وفقد 20 ألف جندي مصري. واليوم تمثل سيناء للوطن جرحا داميا ينزف كل يوم.
ما من شيء أشد خداعا من تحول الوهم إلى حقيقة، وما فعله وتركه الزعيم لم يكن وهما واحدا، كانت جمله من الأوهام التي لم تلبث أن تحولت إلى كوابيس الليل والنهار.