عاد الجدل من جديد في تونس حول مسألة
ظن التونسيون أنها قد أصبحت جزءا من الماضي الاستبدادي. ونقصد بذلك العلاقة بين
الحزب والدولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي. والسبب في هذا الجدل هو أن حزب نداء
تونس شكل لجنة للإشراف على مشاركة الحزب في الانتخابات البلدية القادمة؛ ضمت عددا
واسعا من الوزراء وكتاب الدولة، وهو ما دفع بعدد من الأحزاب المعارضة، أيضا
الأحزاب التي انشقت عن "النداء"، وحتى تلك المشاركة معه في الائتلاف
الحاكم مثل حركة النهضة، لتوجه انتقادات موجعة، وتعتبر أن ما قام به الحزب من شأنه
أن يؤثر سلبا على الانتخابات، وأن مثل هذه الممارسة كانت تستعمل من قبل لتوجيه
الناخبين، أيضا لوضع مؤسسات الدولة في خدمة الأغراض الحزبية. ومن هنا انطلق النقاش
حول هذه المسألة التي فيها قولان..
يدافع حزب النداء عن موقفه بالقول بأن
ما فعله سبق وأن حصل بعد الثورة، وقام به من ينتقدونه حاليا، خاصة في ظل حكم
الترويكا. أما حجته الثانية؛ فهي أن المتحزب عندما يصبح مسؤولا في الحكومة أو
الدولة فإنه بذلك لا يغادر حزبه، وإنما يبقى دائما في خدمته، ويسعى إلى الدفاع عنه
وإنجاحه في المحطات الانتخابية. وثالثا؛ يشير المسؤولون في الحزب إلى التجارب
الديمقراطية العريقة، مثل أمريكا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، حيث لا يقع الفصل بين
الحكومة والحزب أو الأحزاب المشكلة لها.
التجارب لا يقاس عليها، فالخطأ يبقى خطأ حتى لو مارسه آخرون. أما المتحزب في النظام الديمقراطي فإنه لا يخرج عن حزبه عندما يتولى المسؤولية في الحكومة، لكنه يتجنب الخلط بين الحزب والدولة
أما المنتقدون، فلهم قول آخر. التجارب
لا يقاس عليها، فالخطأ يبقى خطأ حتى لو مارسه آخرون. أما المتحزب في النظام
الديمقراطي فإنه لا يخرج عن حزبه عندما يتولى المسؤولية في الحكومة، لكنه يتجنب
الخلط بين الحزب والدولة خلال الحملات الانتخابية، حتى لا يتهم بكونه يخدم حزبه
على حساب الدولة. وأما بالنسبة للاستشهاد بما يجري في الغرب الديمقراطي، فإن
المعترضين يذكرون منافسيهم من نداء تونس بأن الديمقراطية هناك تمارس منذ قرنين
ونصف، وأن المؤسسات وقواعد اللعبة قد استقرت عندهم، وأصبحت راسخة لدى جميع
الفاعلين واللاعبين. ولهذا، لا تجوز المقارنة بين تلك الدول وبين الحالة التونسية
التي لا تزال في بداية الطريق، وتحتاج إلى وقت طويل حتى تترسخ تقاليد جديدة تحول
دون عودة آليات النظام القديم.
بل إن هناك من يتساءل: لماذا تعمد الحزب
استعمال الوزراء وكتاب الدولة في تنظيم الحملة الانتخابية؟ أليست له كوادر أخرى
يمكنه أن يعتمد عليها؟ ويقول أصحاب هذا الرأي، والعديد منهم من بين الذين غادروا
نداء تونس، إن الحزب يواجه قلة الكوادر التي يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه
المناسبات، خاصة وأنه يعتبر أن الانتخابات البلدية هي أشبه بمعركة حياة أو موت حسب
تعبير أحد مسؤوليه.
لماذا تعمد الحزب استعمال الوزراء وكتاب الدولة في تنظيم الحملة الانتخابية؟ أليست له كوادر أخرى يمكنه أن يعتمد عليها؟
تعتبر العلاقة بين الحزب والدولة من
بين التحديات التي تواجهها تونس في مسارها الحالي. فالبلاد قريبة العهد من الفترة
التي كانت فيها خاضعة كليا لمنظومة الحزب الواحد، ولكن الأهم من ذلك؛ أن الكثير من
اللاعبين السابقين استأنفوا نشاطهم من جديد، وهم حاليا يتوجهون بكثافة نحو حزب
نداء تونس من أجل تعزيز صفوفه، ويرون في ذلك فرصة ذهبية لاستعادة ما فقدوه بعد
رحيل بن علي. ولهذا السبب بالذات؛ يخشى الكثيرون من حصول التفاف خطير على العملية
الديمقراطية بمجملها، وإفراغها من محتواها، وإعاة انتاج نسخة معدلة ومشوهة من
النظام السابق.
ما تعهد به "نداء تونس" هو
تفاصيل صغيرة يصعب التحكم فيها ومراقبتها بشكل دقيق. قالوا إنهم أصدروا أوامر
لكوادرهم في الحكومة بألا يستعملوا سيارات الدولة وهواتفها وسائقيها خلال تنقلاتهم؛
بعد السادسة مساء وخلال يومي السبت والأحد. وهي صورة اعتبرها خصومهم كاريكاتورية؛
لأنه من الصعب التأكد منها وفحصها بشكل دقيق. إذ في مثل هذه الحالات إن لم تكن لدى
المسؤول السياسي أخلاق وثقافة تجعله يفصل آليا بين وظيفته وانتمائه الحزبي، فإن
المراقبة ستكون بمثابة الدوران في حلقة مفرغة.
هناك خشية حقيقية من أن يطغى السيئ فيلغي ما هو إيجابي، أو يجعله غير قادر على إرساء أخلاق سياسية مختلفة تحمي المؤسسات، وتبني دولة مغايرة ومجتمعا جديدا
الديمقراطية عملية شاقة، وليست أكلة
سريعة تتم في يوم أو سنة. إنها تفترض حالة من الانضباط والوعي بالحواجز القائمة
بين الخاص والعام، وبين الحزبي والدولة. وبما أن المؤشرات التي تكشف عنها التعددية
الحزبية في تونس تتضارب فيما بينها، بعضها إيجابي وآخر سلبي، بعضها جديد، وبعضها
الآخر هو عبارة عن صدى من الماضي القريب، فإن هناك خشية حقيقية من أن يطغى السيئ
فيلغي ما هو إيجابي، أو يجعله غير قادر على إرساء أخلاق سياسية مختلفة تحمي
المؤسسات، وتبني دولة مغايرة ومجتمعا جديدا.