بعد احتلال العراق في 2003 من قبل القوات الأمريكية، في واحدة من أصعب المحطات التاريخية في حياة العرب والمسلمين، وتحديدا بعد تولي الحاكم المدني المعين من قبل المحتل بول بريمر، كانت خارطة الطريق الأمريكية المرسومة للعراق تتضمن كتابة دستور جديد للبلاد، وإجراء
انتخابات تشريعية ورئاسية يشكل به نظام سياسي للدولة الجديدة، وفي ذلك التوقيت كانت المقاومة العراقية من الوطنيين والإسلاميين السنة في القلب منها، بعد رفض غالبية الشيعة الانخراط في المقاومة بعد فتوى المرجع الشيعي على السستاني بعدم جواز مقاومة الأمريكان، هذه الفتوى التي تزامنت مع وعود بنصيب الأسد للطائفة في حكم العراق.
وعلى الرغم من أن البنية العضوية للدستور تمثلت في المحاصصة الطائفية والقومية للمكونات العراقية، إلا أن أغلب سنة العراق رفضوا العملية السياسية، وبنوا رفضهم على مبررات معقولة، مثل كتابة الدستور تحت الاحتلال، وأن البناء السياسي بعد 2003 لا يخدم دولة وطنية مستقلة. مع ذلك، فإن قطاعا من سنة العراق (الإخوان المسلمين) انخرط في العملية السياسية، مرجحا التواجد بدلا من التلاشي.
ومنذ ذلك التاريخ، وشركاء الطائفة السنية في العراق ما بين مخون ومسفه. وفيما يعتب الأول على الثاني إضفاء الشرعية على العملية السياسية المبنية بأيدي الاحتلال، فإن الثاني يعتب على الأول عدم الدعم، وهو ما يظهره بمظهر الضعف أمام كتل طائفية وعرقية متماسكة، وهو ما يخدم تلك الكتل في شكل قوانين وقرارات تصب في مصالحها دون الطائفة السنية.
هذه المقدمة التاريخية، التي تمتد آثارها حتى الآن في العراق، لازمة في وقت تدخل فيه
مصر مرحلة تتشابه بشكل ما مع تلك الظروف التي مر بها العراق. ووجه الشبه هنا هو جدلية الانخراط في العملية السياسية واستحقاقها الرئاسي الذي يدق الأبواب، والذي تحدد له 16 و17 و18 من آذار/ مارس القادم.
ومع تسارع الأحداث في مصر، وبدء تشكل خريطة مرشحي
الرئاسة، وما يصاحبها من تغيرات يحدثها النظام في أروقته، والتي كان آخرها تعين مدير مكتب رئيس النظام كمدير للمخابرات العامة، وهو جهاز فاعل بشكل كبير في شكل الخريطة السياسية للبلاد، بما له من قوة لا يمكن تجاهلها؛ من خلال أدواته في التأثير على الحالة المزاجية للمجتمع.. يبدو من المهم فتح أطروحة مشاركة المعارضة في الحياة السياسية في مصر.
وتقسم المعارضة في مصر على رأيين، وكل له أنصاره، وكل له أدلة صحة تعضد رأيه:
الفريق الأول يرى أن الدخول في العملية السياسية هو تنازل عن مكتسبات الثورة وما تبعها من مخرجات؛ تمثلت في برلمان تم انتخابه من قبل 18.5 مليون مواطن لا يجوز إهدار أصواتهم، ودستور كتب وصوت عليه ما يقارب ذلك العدد، ورئيس جمهورية مؤيد بنسبة 51.5 في المئة من أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، وهي النسبة المقبولة لدى أعتى الدول الديمقراطية في مثل هذه الاستحقاقات. كما يرون أن هذه المكتسبات لا تسقط بالتقادم، مهما اتخذ بعدها من إجراءات لطمسها فإنها باقية، وكل ما تبعها باطل؛ لأن القبول بالإجراءات التي تلت الانقلاب معناه بالنتيجة ضياع كل تلك المخرجات، ومن ثم فتح الباب أمام أي جهة أن تنقلب على إرادة الشعب في أي وقت فيما لو لم تعجبها نتائج العملية السياسية.
وعليه، كما يرى هذا الفريق، فإن كل ما بني على باطل فهو باطل، وهو ما يعني أن التعاطي مع النظام الحالي، والدخول معه في عملية سياسية هو موافقة على تقعيد قاعدة "الانقلاب على إرادة الشعب". والرابح في هذه الحالة، بحسب أصحاب هذا الرأي، هو من يملك القوة من جيش وشرطة.
أما الفريق الثاني، فيرى أن النظام الحالي استطاع أن يتخذ من الإجراءات التي من شأنها ترسيخ أركانه، بإصداره دستورا جديدا، وانتخاب برلمان ورأس للنظام؛ شكلوا جميعا نظاما سياسيا جديدا في مصر، لقي قبوله من المجتمع الدولي الذي ظهر جليا رفضه للمخرجات الثورية. كما أن فترة الرئيس المنتخب قد انتهت بالفعل في رأيهم، كما أن حالة القمع والاعتقالات والإعدامات تحتم فتح حوار مع النظام لوقف نزيف الدم في مصر.
ويرى ذلك الفريق أن الانخراط في العملية السياسية يفتح باباً للمشاركة في سن التشريعات، وهو ما يمكن من تعديل مسار الفشل الذي يسير فيه النظام، والذي ينتهي بالدولة المصرية إلى حالة الانهيار أو الفشل بالمعنى الاصطلاحي.
فالحالة المعيشية والاقتصادية، وكذا خريطة العلاقات الدولية التي رسمها النظام، تنبئ بأن مصر داخلة في نفق مظلم لن تستطيع الخروج منه.
وبين هذا الفريق وذاك، يبدو أن المعارضة المصرية اختارت حالة الطائفة السنية في العراق، وهو ما بدأ بالفعل في حالة التلاسن الحذر لكل من يتحدث عن الانتخابات الرئاسية أو دعم مرشح ما، وهو ما يصب في مصلحة النظام في النهاية. فلو أن فريق القبول بالعملية السياسية انخرط بالفعل دون أن يكون معه ظهير شعبي قوي، فإنه بالنتيجة سيكون ديكورا يزين به النظام جنبات الديمقراطية المزعومة أمام الغرب، وهو ما تسعى الحكومات الغربية إليه منذ الانقلاب، بسبب الحرج الذي تواجهه أمام شعوبها بعد دعمها للانقلاب في مصر.
وهذ يعني أن المعارضة في النهاية لن تكسب شيئاً من وراء دخولها العملية السياسية، بل على العكس ستكسب فقط لعنات الفريق الرافض.
وعليه، فإن حسم موقف المعارضة من العملية السياسية من خلال اجتماعات وتواصل في الداخل والخارج؛ مهم جدا في المرحلة المقبلة، من أجل الوصول إلى موقف موحد من هذا الاستحقاق. لكن الأهم هو الوصول بحالة الرفض إلى شكل ما للمعارضة؛ يمكن من خلاله الضغط على النظام من أجل إحداث تغيير ما يمكن من خلاله الوصول لأهداف المعارضة المرجوة، حتى لا تفقد تلك المعارضة مصداقيتها عند الشعب، وهو ما بدأ يتسرب لنفوس البعض، حتى لا يكون الرهان على الوقت - الذي كان خيار المعارضة - لصالح النظام في النهاية.