ليست قراءة التاريخ رحلة في الزمن الغابر بل استكشاف عقلاني، وشعور وجداني للعلاقة بين الحاضروالماضي، واستخلاص للعبر، وكذلك للنظم الضامنة لعدم تكرار مآسيه، أو هي استجلاء للشروط والعناصر المحققة للعزة والتقدم. ولعل أروع ما قيل في هذا المجال ما قالته الكاتبة الناشطة روزا لوكسمبرغ، في كتيبها الصادر عام 1919 "استتباب الأمن في برلين": "إن التاريخ ليس فقط سجلا للرزايا والمعاناة، بل هو في الواقع المُعلِّمُ الوحيد للذين يبحثون عن تحقيق وجود عقلاني وسلمي للإنسانية".
ولكي نفهم، ونستفيد من أية قراءة واعية للتاريخ، علينا أن ندرك ان ما نَزِل، وينْزُل في بلادنا من رزايا، وما يحيق بنا من خطب في اأقاب الربيع العربي؛ هو ضريبة مستحقة، لا بد منها. وإن اردنا استكشاف دواعي هذا التوحش ضد المطالبين بالحرية، وتجاهل العالم المتحضر لصرخات الضحايا، سنجد ان أحد أهم اركانها: العقلية الغربية الثقافية الاستعلائية. هذه العقلية نقصد بها، بالممارسة، عقلية الأمريكي وكذلك ذهنية الروسي اللذين يرسمان بالنار مستقبل بلادنا، واللذين يصران على أنهما وحدهما لهما الحق بهذا الامتياز الحصري.
هذه العقلية الاستعلائية لها مكوناتها، ورؤيتها لنفسها، وكذلك للعالم؛ هذه العقلية تنظر لنفسها على أنها مهيئة طبيعيا (بيولوجيا) للريادة، وتتطلع للعالم على أنه ملك شائع، وحدها لها الحق في التنافس على ملكيته، وفي حيازة خيراته. فالروس، بقيصرهم الجديد بوتين، لا يجدون غضاضة في قتل شعوب مغايرة، كما حدث زمن القياصرة وأيام ستالين، لرفع عزة الشعب الروسي؛ فالقياصرة في سبيل ذلك نهبوا العالم، وقتلوا ما شاء لهم من شيشان وأوزبك، وغيرهم، وخططوا لتقسيم الدولة العثمانية، وحرضوا مواطني السلطنة من الديانات المسيحية على تحدي إرادة السلطان. وستالين، في العصر الحديث، قتل ملايين البشر من مسلمي القوقاز وغيرهم.
الأمريكان هم أيضا مارسوا في سلوكهم وحروبهم واستراتيجتهم ما مارسه الروس، وما فعله قبل ذلك الاستعمار الأوروبي. فالجامع بين أصحاب العقلية هذه هو النزعة الجينية الاستعمارية الاستعلائية. فالأمريكان أسسوا دولتهم على نظرية تجاهل وجود شعب من الهنود الحمر؛ فالتجاهل انبنى على نظرية أن الهنود متوحشون ولا يستحقون ما منحتهم الطبيعة، وعندما قاوم الهنديُّ الأحمر تطفلَ الأمريكي الأوروبي الدخيل، لم يلق إلا المدفع والقتل والذبح! فالهندي الأحمر قُتل عندما قاوم للحفاظ على حريته، ونُهب ماله عندما سالم!
في الزمن القريب، ضرب الأمريكيون فيتنام بكل الأسلحة التي لا يمكن تخيلها، ودمروا الأرض، وقتلوا البشر؛ وكذلك قسموا كوريا إلى كوريتين، وعندما قاومت لم يترددوا في التفكير باستخدام أسلحة نووية لتقليص تكلفة حربهم العدوانية. ما نعرفه من الأرشيف الأمريكي ان الجنرال الأمريكي مكارثر ومعه القيادة السياسية؛ فكروا بضرب عشرين قنبلة نووية صغيرة لتغيير مجرى الحرب الكورية، وما فعلوه في العراق عندما اجتاحوه تحت غطاء نشر
الديمقراطية والحرية؛ ليس ببعيد ولا يحتاج لبرهان. العبرة بهذا التوصيف أن الثقافة الغربية في سيكولوجيتها تؤمن أن شعوبنا (الآسيوية) بطبعها تقبل
الاستبداد، وتحني الرقاب له. ولا عجب ان يستخدم حاملو تلك الثقافة القوة والعنف ضدنا، بيدهم أو بيد وكلائهم من بني جلدتنا!
هذه النظرة الثقافية الغربية ليست جديدة ولا دخيلة، بل هي نتاج فكري أفرزه مفكرو أوروبا! لذا فإن ما نراه في سوريا، وما نشاهده على امتداد الأرض العربية والإسلامية، يثبت لكل مشكك أن دماءنا في نظرهم رخيصة، وأن
الحرية التي نريدها في تحليلهم لا تصلح لنا؛ لهذا هم إما مشاركون بقتلنا مباشرة أو يغضون الطرف عمن يُقطِّع أوصالنا (بالطبع لا ننفي أيضا غباءنا وتخلفنا كسبب مؤثر في المعادلة). وملحمة القتل هذه، للأسف، لم تقتصر على الغرب، بل انضم لها بحماس آخرون محسوبون علينا، ومدفوعون بنظرية أخرى تسترجع التاريخ، وتستبطن استعلاء جديدا في زمن امبرطوريات تتجسد على أرضنا؛ فإيران - كمثال - في سعيها للتاج الإمبراطوري، حولتنا تحت شعار المقاومة والممانعة لى قبائل متناحرة، يتقاتل فيها الأهل تحت رايات تاريخية مزورة تصب كلها في حرماننا من العيش بحرية.
هذا العنف والتجاهل ضد شعوب تطالب بالحرية سببه إيمان أصحاب تلك العقيلة الاستعلائية بأن الحرية هي مفتاح التغيير، وأنها الباب الذي يوصلنا إلى عالم جديد قد يكون غامضا لكنه عالم ينبض بالأمل. وفي سبيل هذا العالم المتخيل، تسيل دماء وتهدم بيوت، ويخرب اقتصاد. وفي سبيله يهرب أبناؤنا إلى بلدان لا تريدهم، فيموتون إما بردا أو غرقا، وعند وصولهم يفرزون كما تفرز البهائم، وينزلون في أماكن استقبال تشبه معتقلات أسرى الحروب. كل هذا في سبيل الحرية، فهل تستحق الحرية كل هذا العناء؟
الرئيس أبراهام لنكولن قبل أن يوافق الكونغرس على تعديل الوثيقة رقم 13، التي حررت العبيد، قالت له خادمته - تخفيفا عنه - عند استقباله بعد عودته من مفاوضات مضنية مع رجال الكونغرس: سيادة الرئيس، إنني مؤمنة بأن الوثيقة سيوافق عليها الكونغرس، وأن الرب سيضمن ذلك. رد أبرهام: وماذا بعد الموافقة؟ وماذا سيحدث لك بعد التحرر؟ هل أنت خائفة من الغد وماذا يحمل لك؟ أجابت إن السود (العبيد) قاتلوا وكافحوا على مر الأجيال وماتوا بشجاعة لنيل الحرية! لم يسأل أحد من هؤلاء: ماذا بعد الحرية؟ تابعت: بالنسبة لهؤلاء جميعا، لم يكن مهما ماذا سيحدث بعد الحرية.. كان المهم أن ينالوا الحرية؛ أما الغد فلن يكون أبدا اسوأ مما عاشوه ويعيشونه.
هكذا يُقرأ التاريخ، ومن خلاله نعرف أن ثمن الحرية باهظ جدا، وأن من يقول: لا تطالبوا بحرياتكم لأن الثمن سيكون قتلا وسجنا، نقول: إن من يقول ذلك لا يعرف التاريخ ولا يدرك قيمة الحرية.