لم تكن وليدة اللحظة، تلك السهولة التي مرت بها كارثة تنازل الانقلاب عن ألف كيلومتر مربع في سيناء، تحت ستار التبرع لما يسمى بمدينة نيوم، وهي صفقة لابد أنها تمت نظير مبالغ فاحشة من "الرز".
هذا الاستقبال الجماهيري غير المكترث للتنازل عن جزء من سيناء، جاء تتويجا لجهود مؤسسات العسكر التي عملت بدأب بعد الانقلاب لمحاصرة بؤرة الاحتجاج وعزلها عن الحاضنة الشعبية، كما أنها جاءت أيضا نتيجة التوظيف الخاطئ لنواة الحراك. وهي نتيجة لم تكن لتتحقق لولا العيوب الكامنة في نموذج 25 يناير الاحتجاجي.
أجهزة العسكر كلها كانت منشغلة بمهمة إعادة الجماهير لحالة الكمون التي سبقت 25 كانون الثاني/ يناير 2011، ولابد أن نعترف بنجاحهم في هذا، وبأنهم عملوا وفق خطة واعية، بينما كان المعسكر الرافض للانقلاب يتصرف بصورة تعوزها الخبرة، وتفتقر إلى الإلمام بالثوابت السياسية، وبدت أشبه بمن يقود سيارة على طريق سريع مقفر دون أن يعرف وجهته.
ومأزق من يتصدرون المشهد المناهض للانقلاب الآن، ليست أنهم يتعاملون مع جماهير جرت إعادة ضبطها إلى الحالة قبل الاحتجاجية، بل الاسوأ من هذا، أن هذه الجماهير تشبعت بفشل النموذج الاحتجاجي.
مشكلة من يتصدرون المشهد الآن هي أنهم يتعاملون مع الجماهير الباحثة عن البامية اللاهثة خلف أسعار كل السلع.
ليس هذا، فحسب، بل هم يتعاملون كذلك مع جماهير ملت حالة اللا ثورة، واللا تغيير، واللا نتيجة، واللا نجاح، واللا احتجاج، واللا شيء، التي تعيشها منذ الانقلاب، جماهير تبحث (كأي جماهير) عن لحظات استقرار حول مباراة كرة قدم تعرضها شاشة.
التحدي الآن أمام مناهضي الانقلاب صار مضاعفا، فلم يعد عليهم فقط توجيه الجماهير لاحتجاجات، فالأمور صارت أكثر تعقيدا، فالآن عليهم أن يقنعوا تلك الجماهير الرابضة خلف شاشة ما تشاهد مباراة ما، أن يشاركوا في احتجاج، ثم عليهم بعد هذا إقناعهم بأن هذه الاحتجاجات سوف تحدث نتيجة ما!!
بدأ الحراك المناهض للانقلاب عفيا هادرا، ولكنه مع الوقت تحول ما يشبه النبضات الواهية الآخذة في التباطؤ. لكن ما يملكه الجميع الآن هو محاولة إعادة النشاط لتلك الجماهير وتحقيق مكاسب تعيد التئام الحاضنة الشعبية التي عُزلت بنجاح بعد مجزرة رابعة.
وحتى ندرك الضرر الذي لحق بحيوية الجماهير نتيجة للإدارة الخاطئة للحراك، فلنتخيل ما الذي كان من الممكن أن يحدث إذا كانت صفقة الألف كيلومتر في عهد الرئيس
مرسي!!
كانت مدينة الإنتاج الإعلامي ستتحول إلى خلية نحل، تدق طبول الثورة على شاشاتها. كنت سترى تلك الإعلامية تجهش بالبكاء على أراضي سيناء التي بيعت. مذيعة أخرى كانت ستحمل كفنا وتقدمه للجماهير على الشاشة. بعض الإعلاميين كانوا سيقدمون حلقات برامجهم وقوفا، مقسمين أنهم لن يجلسوا حتى تعود الأرض!
طبعا في أجواء الحرية التي كانت تعيشها
مصر كلها تحت حكم الرئيس مرسي، كان بإمكانك أن تجد مظاهرة متجهة لقصر الاتحادية مطالبة الرئيس مرسي بالاستقالة، لأنه لم يجد في المتجر نوع الشوكولاتة الذي اعتاد شراءه.
في الأجواء التي أعقبت انتخاب الرئيس مرسي، كان الجميع يتعاملون معه وحتى قبل أن يستلم مهام منصبه فعليا على أنه مسؤول عن (الدابة التي عثرت في العراق). كانت المظاهرات تخرج فقط بسبب أخبار كاذبة، على عكس ما نراه الآن من ركود رغم التنازل عن الأراضي في سيناء.
التحدي الأكبر الآن هو إعادة النشاط لتلك الشريحة المؤمنة بالتغيير، التي اختارت نتيجة للتراخي والخطأ في إدارة الحراك، أن تنضم إلى حزب (الكنبة). وهو تحدِ ليس أمام الجميع إلا خوضه على الرغم من تعقيده.