مع مرور تسعين عاما على تأسيس جماعة
الإخوان، فإن نقطة القمة (الملغومة) التي وصلت إليها الجماعة كانت بالوصول إلى حكم
مصر (أول رئيس مدني منتخب- أكثرية برلمانية- عدد من الوزراء والمحافظين.. إلخ). وقد حدثت هذه الطفرة المفاجئة للجماعة عقب ثورة
25 يناير 2011؛ التي شاركت فيها الجماعة، وساعدت على تحويلها بالفعل من مجرد مظاهرة لبضع ساعات في ميدان التحرير إلى ثورة شعبية شملت معظم محافظات مصر.
صحيح أن الجماعة تعاملت بحذر شديد مع دعوات النزول استعدادا ليوم 25 كانون الثاني/ يناير (حيث كانت الكثير من الدعوات تظهر وتختفي بلا جدية)، وصحيح أن قياداتها الكبرى في القاهرة والمحافظات لم تكن تشجع شبابها على النزول، لكن الصحيح أيضا أنها لم تمنع أحدا من النزول، وتركت لشبابها حرية التفاعل مع الدعوات الشبابية على فيسبوك للنزول، وقد شارك بالفعل الكثير من شباب الإخوان يوم 25 كانون الثاني/ يناير، كما شارك عدد من نواب ورموز الجماعة في الوقفة أمام دار القضاء العالي يوم 25 يناير2011 (وكنت شخصيا حاضرا وشاهدا على ذلك)، لكن الحشد الأعظم كان يوم 28 كانون الثاني/ يناير بعد أن حسمت الجماعة قرارها بالنزول، وهو ما تسبب في اعتقال عدد كبير من أعضاء مكتب الإرشاد ورؤساء المكاتب الإدارية في المحافظات يوم 27 كانون الثاني/ يناير، والذين خرجوا من السجون يوم 29 كانون الثاني/ يناير عقب انهيار بوابات تلك السجون وحراساتها.
كانت الثورة مفاجئة للإخوان، كما هو الوضع لعموم الشعب المصري، ولعموم القوى السياسية التقليدية، ولم تكن أدبيات الجماعة تميل إلى العمل الثوري، استنادا إلى مواقف فقهية وتجارب تاريخية، وهو ما شرحه الإمام البنا، مؤسس الجماعة في رسائله، وهذا ما يفسر الموقف المتردد من الثورة في يومها الأول، كما يفسر رغبة بعض قيادات مكتب الإرشاد في الانسحاب من الميدان يوم موقعة الجمل حقنا للدماء لولا تمسك قواعد الإخوان المحاصرة في الميدان بالدفاع عنه، وقد سجلوا بالفعل ملحمة بطولية شهد بها الجميع.
ليس عيبا أن تنهج الجماعة فكرا إصلاحيا غير ثوري، فهذا هو السائد في غالبية الحركات السياسية والدعوية، وقد حاولت الجماعة "الإصلاحية" التكيف سريعا مع التطورات والتغيرات الثورية السريعة للمشهد المصري خلال أيام الثورة، لكن ظلت الفكرة الإصلاحية حاكمة لكثير من قراراتها وسياساتها، وظهر التباين في مواقف شيوخ الجماعة الأميل للفكر الإصلاحي وشباب الجماعة الأميل للتماهي مع العمل الثوري الذي وفر لهم فرصة تاريخية للتغير السريع، وهو ما تحقق بخلع الرئيس حسني مبارك، وبعض أركان حكمه، وما تلا ذلك من تعليق الدستور وإجراء تعديلات جديدة لفتح المجال السياسي.
ولأن الثورة كانت حالة مفاجئة ومربكة لكل القوى السياسية وليس للإخوان فقط، فإن أحدا من تلك القوى لم يكن يحمل "كتالوج ثوري" محدد الملامح والخطوات، باستثناء أحلام شباب الثورة التي حلقت عاليا متجاوزة نصائح "عواجيز" العمل السياسي، ولكنهم لم يستطيعوا أيضا بلورة خارطة طريق ثورية واضحة، وحتى الفكرة البسيطة التي طرحوها بتشكيل مجلس رئاسي من الميدان لم يتمكنوا من تسويقها وتنفيذها، ومع تنحي مبارك يوم 11 شباط/ فبراير، أقرت غالبية القوى السياسية والمجموعات الشبابية فكرة إخلاء الميدان بعد شعورها بتحقيق نصر لم تكن تحلم به، ولم يدافع عن فكرة البقاء في الميدان سوى مجموعات قليلة، وبالتالي فإن مغادرة الإخوان للميدان جاءت في سياق هذا التوافق العام.
كان استفتاء 19 آذار/ مارس 2011 هو الفيروس الذي ضرب جسد الثورة، وأنتج ذلك الشرخ الكبير بين من يرفعون شعار الدستور أولا أو الانتخابات أولا. ربما اتضحت الصورة لاحقا بشكل أفضل، حيث اتضح أن المجلس العسكري استخدم ذلك الاستفتاء لضرب وحدة الثوار، وحتى يتمكن من فرض خارطة الطريق التي وضعها في مطابخه الخاصة. ولنتذكر هنا أن التعديلات التي كانت محلا للاستفتاء شملت 12 مادة فقط، لكن المجلس العسكري أخرج إعلانا دستوريا من 62 مادة، وهو ما كان ينبغي التوقف عنده، وعدم تمريره، لكن الرغبة في عدم الصدام مع المجلس دفعت الإخوان لتفويت هذه المسألة، وهو خطأ مثل إشارة خضراء للعسكر للسير قدما بخططهم. وقد وقعت شخصيا في ذلك الفخ، ودافعت وقتها عن الاستفتاء والتصويت بنعم، ورغم أن القوى المدنية (غير الإسلامية) كانت ترفض تلك التعديلات، إلا أنها لم تقاطع الاستفتاء، بل سخرت كل إمكانياتها المادية والإعلامية للتصويت برفض التعديلات، لكنها خسرت النتيجة.
بدت العلاقة بين الإخوان والمجلس العسكري ودية في الأيام الأولى للثورة، وهو ما دفع القوى الليبرالية لاتهامهم بعقد صفقة مع العسكر منذ حضورهم جلسة الحوار مع نائب الرئيس عمر سليمان. وللعلم، فهذه الجلسة التي عقدت يوم 6 شباط/ فبراير 2011 لم تقتصر على الإخوان، بل ضمت رؤساء ورموز الأحزاب الليبرالية والناصرية مثل السيد البدوي ورفعت السعيد ونجيب ساويرس ويحيي الجمل، وعدد من شباب الثورة، مثل مصطفى النجار، وياسر الهواري، وأحمد ماهر ووائل غنيم.. إلخ.
كان الإخوان يستهدفون من هذه العلاقة الودية التقدم بالثورة خطوة للأمام، كما كانوا يستهدفون تجنب الصراع معهم مبكرا، ولكن الخصوم السياسيين يتهمون الإخوان بالطمع في السلطة من خلال هذه العلاقة الودية. والحقيقة أن فكرة الطمع في السلطة هي عملية مشروعة في عالم السياسية، فالوصول إلى السلطة هو غاية كل حزب أو كيان سياسي، كما أن القوى المدنية لم تكن عازفة عن السلطة في تلك الفترة، بل كانت تشعر أنها هي الجديرة بالسلطة، بزعم أنها هي من أشعلت الثورة، وبالتالي من حقها أن تجني ثمارها. لكنها، وخاصة قواها الشبابية، لم تكن تشعر بالجاهزية للمنافسة الانتخابية على خلاف الإخوان، ولذا فقد طالب البرادعي ببقاء المجلس العسكري لمدة سنتين حتى تستعد تلك القوى.
وبالعودة لقصة العلاقة الودية مع المجلس العسكري فقد اتضح للإخوان خطأ تصرفهم، وقد اعتذروا عن ذلك في بيان رسمي لهم (21 كانون الثاني/ يناير 2014)، ولكن ذلك لم يشفع لهم عند خصومهم الذين يحرصون على وضعهم في خانة الاتهام دوما.
تداعت أحداث ثورة يناير في ظل حالة الاستقطاب السياسي التي أعقبت استفتاء 19 آذار/ مارس 2011، وكان منها أحداث محمد محمود التي أعقبت جمعة المطلب الواحد، والتي أسقطت وثيقة المبادئ فوق الدستورية التي طرحها الدكتور علي السلمي، كما فرضت على المجلس العسكري إجراء الانتخابات البرلمانية بعد شهر. ولا تزال مذبحة محمد محمود حاضرة في أذهان كل من حضروها، وقد كنت واحدا منهم، كما كان هناك عدد من شباب الإخوان ورموزهم، مثل النائب الدكتور محمد البلتاجي وأبنائه، ومنهم الشهيدة أسماء، وظللنا في المكان حتى تعرضنا للإهانات من بعض الشباب "المتوتر". ومع ذلك، فإنني أقول أن الواجب كان يقتضي حضورا إخوانيا أكبر لمنع وقوع تلك المذبحة التي تعرض لها الشباب الذين انفردت بهم الشرطة المدعومة من الجيش، كما أن تقصير الإخوان في حماية شباب محمد محمود لم يكن مبررا لشماتة الكثير من القوى الليبرالية في شهداء رابعة لاحقا.
كان مشهد فيرموند الذي جمع رموزا ليبرالية مع المرشح الرئاسي الدكتور محمد
مرسي عقب جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية؛ نموذجا لقدرة القوى السياسية على تحقيق هدفها، حين توحد جهودها. فقد ساهم ذلك في إقناع المجلس العسكري بالعدول عن فكرة تزوير نتيجة الانتخابات التي أخر إعلانها بلا مبرر، وكان من الممكن لهذه الروح لو استمرت أن تسهم في تحقيق الكثير من أهداف الثورة. ورغم أن الرئيس مرسي حرص على مشاركة ممثلين لقوى مختلفة في الفريق الرئاسي، حيث عيّن أربعة مساعدين لرئيس الجمهورية، أحدهم مسيحي والثاني امرأة والثالث يمثل السلفيين والرابع يمثل الإخوان، وكذا عددا من المستشارين، ولكن الشكوى الرئيسية للكثيرين منهم هي أن مناصبهم كانت بلا صلاحيات حقيقية. وحين احتدم الصراع السياسي مع جبهة الإنقاذ، فقد كان الأفضل هو نزع قتيل تلك الأزمة باختيار حكومة وفاق وطني جديدة سواء برئاسة البرادعي أو أي شخصية أخرى تلقى قبولا عاما، وعلى كل حال فقد تلك المرحلة ملبدة بغيوم الإستقطاب الحاد، والتدخل الإقليمي السافر لدعم بعض القوى السياسية، وتكرار المحاولات لإسقاط الرئيس مرسي وتجربته، ولم تكن تلك التدخلات لتسمح بنجاح أي محاولة للحوار كتلك التي دعا لها الرئيس مرسي ورفضتها جبهة الإنقاذ.
وعلى العموم، فإن الحديث عن تجربة ثورة يناير وتطوراتها، وأدوار القوى المختلفة بما فيها الإخوان، لا يكفيه مقال، بل يحتاج إلى كتب ودراسات، والباب مفتوح للجميع لتوثيق تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر.