واجبنا نحو تحقيق أمنيات السيسي

لم تعدم مصر على مر تاريخها؛ الرموز السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة بشكل كبير في تكوين الشخصية المصرية التي ناضلت كثيرا بعد انقلاب الثالث والعشرين من تموز/ يوليو 1952، للبقاء في محيط حاول القابضون على مقاليد الحكم تجريفه لصالح ثلة أرادت أن تعيد تشكيل الوطن بحسب رؤية أثبتت الأيام أنها مشوّهة.

لكن ومع ذلك، استطاعت شخصيات كثيرة، لا مجال لحصرها هنا، صنع رمزيّتها بفعل نبوغ علمي أو إنجاز اقتصادي أو اجتماعي وتقديم إضافة إلى تاريخ مصر على قدر المستطاع؛ في مساحات عمل ضيقة أتاحها نظام يوليو، والذي استمر منذ انقلابه على النظام الحاكم وحتى ثورة يناير 2011. إلا أن كثيرا من تلك الفئة التي تمثل قيمة مضافة لأي بلد؛ آثروا الانسحاب إلى بلاد تتيح مساحات أرحب في التفكير والإبداع، إلا أنهم مع ذلك لم ينسوا وطنهم؛ محاولين انتهاز أية فرصة لخدمته، وقد كانت ثورة يناير هي تلك الفرصة التي رآها كثير من هؤلاء لتقديم شيء ما لوطنهم.

إلا أن الخدعة الكبرى التي قام بها مبارك بتسليمه السلطة للمجلس العسكري، كانت بمثابة استكمال للنهج الذي اختاره العسكر منذ 1952، فأشاعوا الفوضى وقتلوا الحلم، فتراجع المبدعون وانسحبوا لصالح الرويبضة ممن تصنعهم الآلة الإعلامية الموالية للنظام لاستخدامهم في المشهد العام لتزين وجه النظام المتغلب.

ولقد أشفقتُ على من يستمع لحديث تلفزيوني لرأس النظام في مصر، وهو ينعي حالة ضعف التنافسية في الاستحقاق الرئاسي، والذي تقرر نهائيا أن يخوضه مع رئيس حزب الغد موسى مصطفى موسى، والذي نال من السخرية ما لم ينلها أشعب بن جبير.

السيسي في تلك المقابلة تمنى لو كان هناك أكثر من مرشح، لكن ليس له ذنب في ذلك إطلاقا، وزاد قائلا: "كنت أتمنى أن يكون لدينا حتى 10 مرشحين من أفاضل الناس في الانتخابات معنا".

إلا أن إجابته عن السبب وراء عدم تقدم مرشحين، كانت: "لسنا جاهزين، وهذا ليس عيبا... لدينا أكثر من مئة حزب... وعليهم التقدم بمرشحين".

هذا المنطق لا يمكن توصيفه إلا بأنه حالة من الاستخفاف بمشاهديه وجمهوره وشعبه وتكذيب للواقع وتزييف للحقيقة. فحالة الانسحاب والاستبعاد لأسباب مختلفة التي أصابت من أعلنوا نيتهم الترشح لم تكن بملك من اتخذ هذا القرار، فالقمع والسجن والترهيب هي السمة التي أثّرت على المرشحين لاتخاذ قرار الانسحاب من السباق الرئاسي، كما أن لصق صفة الإرهاب على مكون مهم من مكونات الحياة السياسية المصرية وإقصاءه (التيار الإسلامي)؛ سبب كاف لعدم وجود منافس حقيقي في الانتخابات التي انطلقت وعرفت نتائجها حتى قبل أن تبدأ.

لكن عقلية الرجل العسكرية التي لا تعرف إلا المعادلات الصفرية، والتي تربّت على إفناء الخصم أو على الأقل تحييده من خلال تدمير كل أسلحته ومقومات قوته (وهي عقلية نافعة في مجالها) لا تقبل بوجود منافس، إلا أن إرجاع السيسي ضعف المنافسة إلى عدم وجود رجل مناسب؛ هذا التبرير بمثابة سبة في وجه الوطن والمواطنين الذين يعيشون على أرض هذا الوطن الذي قدر له أن يسلط عليه حكام عسكريون لهم مهام وظيفية، سواء من المحتل الكلاسيكي أو من المحتل الجديد الذي لا يرغب لهذا الوطن أن ينهض، ومن ثم يغرزه في مستنقع الفساد والمفسدين لإفقاره من رجاله، من خلال بث اليأس في قلوب أبنائه.

والمضحك المبكي في حديث السيسي؛ أنه مع هذه السردية طالب الشعب بالنزول للانتخابات بكثافة، لكن الرجل بعقليته الإقصائية أوقعه لسانُه في منزلق تبيان حقيقة تلك الانتخابات التي يراها هو أنها استفتاء لا انتخابات، فقال بالحرف: "قسما بالله العظيم، لو قال المصريون "لا" في الانتخابات، فإن ذلك أمر عظيم ومحترم جدا، وينفذ فورا".

فلم يستطع أن يمثل دور المرشح لانتخابات، فعقلية الاستفتاء التي سيطرت على عقول حكام العسكر منذ عبد الناصر، صاحب 99.9 في المئة، إلى مبارك الذي تنازل عنها في آخر أيامه تحت الضغط الدولي، هي صورة حقيقية لفكرة الديمقراطية والانتخابات في ذهن الحاكم العسكري.

الأزمة الآن ليست في نتيجة الانتخابات المعروفة سلفا.. الأزمة الحقيقة في ذلك الخطاب المغيب للوعي الشعبي صاحب ذاكرة السمكة؛ والذي سينسى مع الوقت المفاهيم التي حاولت الثورة ترسيخها، من حقوق وواجبات وآليات تبني مجتمعا حرا ديمقراطيا يخلق بيئة خصبة للعقول المبدعة لأن تقدم لهذا الوطن ما يستحق، بيئة تضعف من حالة هجرة العقول بعد بث أمل النهضة في ضمير هذا الشعب.

هذه البيئة التي سعى النظام العسكري على مدى تاريخه في حكم مصر تلويثها لمصلحة المفسدين والمتملقين الوصوليين. فإن نحن ناضلنا من أجل خلق هذه البيئة، فإن أمنيات السيسي بوجود منافس قوي لن تتحقق أيضا... لأنه وقتها لن يكون هناك سيسي في مصر.