لم يكن من المفاجئ أو الغريب أن يلجأ بشار الصغير إلى استخدام الكيماوي مرة جديدة ضد شعبه في مدينة دوما بالغوطة، هو فعل ذلك مراراً وتكراراً حسب تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها، وعموماً فإن نظام البعث القومجي وحده استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه في العراق وسوريا، وهو أي النظام البعثي فعل ما لم يفعله أي من الغزاة عبر التاريخ بتدميره بغداد والشام معاً، ومن ثم تسليمهم لقمة سائغة للمحتلين.
غير أن ذلك لا يحجب أو يمنع ضرورة السعي والاجتهاد للبحث عن السياق السياسي أو الأسباب التي دفعت بقايا النظام - العصابة لاستخدام السلاح الكيماوي مرة أخرى وفي الغوطة تحديداً.
كما قلنا فإن استخدام النظام الاستبدادي الذي لم يتورع عن ارتكاب كافة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه هو أمر غير مفاجئ، ولا يجب أن يكون أصلاً مثاراً للسؤال أو النقاش عما إذا ارتكب الجريمة أو لا مع العلم أن بصماته واضحة جلية لا يمكن إخفائها حسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش. وكما أن نظرة على ما ارتكبه بدوما والغوطة شكل خاص وسوريا بشكل عام من تدمير منهجي وقتل للبشر والحجر توضح أن هذا النظام لا يتورع عن فعل أي شيء في سياق تحقيق أهدافه الدنيئة أو مطاردة حلمه المستحيل بالبقاء.
استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة تحديداً يعيدنا إلى العام 2013، حيث ارتكب النظام الجريمة الكيماوية لأول مرة على نطاق واسع، وهو نجا آنذاك من خلال اتفاق أمريكي – روسي– إسرائيلي مشين تمثّل جوهره بسحب السلاح الكيماوي منه، وتمكينه من ارتكاب الجرائم بالأسلحة الأخرى من براميل متفجرة، وحتى صواريخ بعيدة المدى. ومن هنا فإن ترامب محق تماماً في قوله إنّ أوباما لو دافع عن خطوطه الحمر جديّاً لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، ولكان بشار الأسد أصبح من التاريخ، إلا أن ترامب ينتقد أوباما شكلياً ولفظياً، بينما على الأرض يبدو عاجزا- عن بلورة استراتيجية مغايرة وصحيحة، ولا يمكن مثلاً مواجهة بقايا النظام أو إمبراطورية الدم والوهم الفارسية بالاعتماد على بي كاكا السوري المتواطئ سرّاً وعلناً مع النظام، وإيران وحشودها الطائفية الموتورة.
روسيا كانت الضامن الرئيس للنظام في اتفاق 2013 الذي أعاد استخدام السلاح الكيماوي على نطاق ضيّق عشرات المرات، وعلى نطاق واسع في خان شيخون العام الماضي، وما يثبت أن موسكو. أمّا لم تقم بمسؤولياتها، كما يجب أو أنها تتغاضى عن جرائم النظام الذي لا يمكن أصلاً أن يرتكب جريمة كبرى دون ضوء أخضر أو حتى برتقالي من روسيا في منطقة أو بقعة تتولى هي فعلياً السلطة فيها سياسياً وعسكرياً أيضاً.
إفلات النظام من العقاب في 2013 شجعه إذن للمضي قدماً بارتكاب الجرائم الكيماوية، ورغم أن المسؤولية واضحة حسب تحقيق مشترك ورسمي للأمم المتحدة ومنظمة الحد من الأسلحة الكيماوية، إلا أنه نجا من العقاب بحماية سياسية وديبلوماسية وإعلامية روسية علنية وفجة وبعد عام من مجزرة خان شيخون ها هو يرتكب جريمة أخرى بنفس الغطرسة والإجرام والثقة بالحماية الروسية، وهو ما رأيناه فعلاً في الفيتو الأخير في مجلس الأمن وهو رقم 12 لموسكو في القضية السورية والسادس فيما يتعلق باستخدام النظام للسلاح الكيماوي.
في السياق الروسي أيضاً، فإن موسكو تحتل سوريا بالمعنى الكامل والجاد للكلمة، وفي الغوطة تحديداً هي من قادت المعركة كما المفاوضات مع ثوار الغوطة، ولا أشك لحظة أنها اعتبرت حرب الإبادة فيها جزء من الردّ على المذبحة ضد مرتزقتها – شباط/ فبراير الماضي - شرق دير الزور على يد القوات الأمريكية كون اتفاق المنطقة الآمنة في الجنوب تم التوصل إليه بمفاوضات ثلاثية أمريكية أردنية روسية بينما اتفاق الغوطة تحديداً تم توقيعه في القاهرة برعاية من نظام السيسي المتواطئ مع الاحتلال الروسي وبقايا نظام بشار على حد سواء.
روسيا استغلت الظرف الحالي على طريقتها الدموية الإجرامية والخيار الشيشاني التقليدي مع اعتبار قتل وتهجير الشعب السوري ردّاً على تردي علاقتها مع الغرب، وهي سعت كذلك لاستغلال لتأمين العاصمة الدمشقية وتوسيع مناطق نفوذها أو مناطق النظام الخاضع تماماً لها ضمن فهم عام أن التسوية السياسية بات بعيدة، وأن المرحلة الانتقالية أو مرحلة تقاسم النفوذ قد تمتد لمدى زمني طويل.
النظام من جهته استغل الظرف وتماهى مع السياسة الروسية للتنكيل بأهل الغوطة الثائرين والصامدين أمام الته الإجرامية، وإجراء تغيير ديموغرافي وتطهير عرقي في محيط دمشق لإقامة ما أسماه الحشد الشعبي الإعلامي الناطق بلسان إمبراطورية الدم والوهم الفارسية منذ سنوات سوريا المفيدة، وما أسماه بشار الصغير سوريا المتجانسة، وهو نفسه الكيان الطائفي البغيض المحمي. روسياً وبخلفية آمنة مع دويلة الحشد الشعبي في لبنان وللمفارقة، ورغم التهرّب والتلاعب بالألفاظ وتجميلها، فإن هذا نفس ما تقوله إسرائيل عن دولة صهيونية بأقلية عربية خاضعة ومستكينة للغالبية اليهودية.
طبعاً لا أشك لحظة أنه سيكون رد أمريكي غربي جماعي هذه المرة على الجريمة الروسية الأسدية بالغوطة، والردّ غير مرتبط بالحرص على الدم السوري، ولا يهدف إلى منع الاحتلال من إقامة كيانه الطائفي المسخ، أو توجيه ضربة قاصمة لبقايا النظام العصابة، وإنما بالصراع الغربي المحتدم مع روسيا في الفترة الأخيرة وسيكون غالباً أكبر من رد الشعيرات العام الماضي، وأقل من قدرته على تغيير الوقائع الميدانية بشكل جذري، علماً أن الغرب المنفصم والمنافق رفض الاحتلال الروسي للقرم وتدخله الفظ في أوكرانيا، ولكنه تساوق وتعاط إيجابياً مع الاحتلال الروسي لسوريا، وخضع للأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال سياسياً وعسكرياً أيضاً.
في الأخير؛ وباختصار فإن الجريمة الكيماوية تظهر في أحد أوجهها، عجز النظام العصابة بعد سنوات من الجرائم متعددة المستويات والأسلحة وست سنوات من الاحتلال الفارسي وثلاث سنوات من الاحتلال الروسي، عن كسر إرادة الشعب السوري أو فرض رؤاه وتصوراته كما أن فكرة سوريا المفيدة المتجانسة الطائفية البغيضة نفسها تؤكد يقين النظام من عجزه عن إعادة احتلال البلد كله، أو فرض الاستسلام على الشعب الثائر.
والجريمة الكيماوية تؤكد كذلك أن التسوية السياسية بعيدة، وغير منظورة على المدى القريب، وحتى المتوسط، ولكنها تؤكد كذلك أن لا تسوية ممكنة مع بقاء النظام وأجهزته الإجرامية.