هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عرفت "إسرائيل" خلال السنوات الثلاثين الأخيرة معارك
عسكرية، أوقعت خلافا سياسيا ثقيلا داخلها، وأفسحت المجال لمشاهدة الطبيعة
الإشكالية في علاقة الجيش بالمستوى السياسي، رغم أن القوة المتنامية للجيش نابعة
بالدرجة الأولى من ضعف ذلك المستوى، الذي يشعر حقيقة بأن لا أمل له بمواجهة
"جهاز" يحظى بإعجاب جارف في الدولة، وفي حالات أخرى، يفضل الاختفاء خلف
المكانة السامية التي يتمتع بها.
وأثبتت
التجربة، وفقا لمراقبين، أنه في الوقت الذي يتّخذ فيه الساسة قرارا، فإن العسكر
ليس عليهم إلا أن ينفذوا، فرغم المعارضة التي أعلنها "شاؤول موفاز" رئيس
هيئة الأركان، والحملة التي قادها جهاز الاستخبارات العسكرية لإخافة الساسة من
الآثار الناجمة عن الانسحاب من لبنان، إلا أن رئيس الحكومة "إيهود
باراك" حين رفض سماع هذه التحذيرات، فإن الانسحاب تم أواسط عام 2000.
وكذلك
الحال لدى الانسحاب من غزة أواخر عام 2005، حيث أعلن "موشيه يعلون" قائد
الجيش معارضته له، لكن رئيس الوزراء القوي "أريئيل شارون" أصر على
كلامه، ونفذ الانسحاب.
ويقول
"موشيه أرنس"، الذي عُيِّن وزيرا للدفاع خلال ثلاث مراحل مختلفة، إن
الجيش يتخذ قرارات فقط في الحالات التي يهرب فيها الساسة من المسؤولية، لهذا
السبب، نستطيع تفهم تملص "شارون" لأكثر من عامين من النقاش الدائر حول
أهداف الحرب ضدّ الفلسطينيين أوائل انتفاضة الأقصى، رغم أنه موضوع سياسي محضّ، إلا
أنه أعطى المجال للجيش لتنفيذ هذه الأهداف عمليا على أرض الواقع، وفي أحيان أخرى
من خلال التصريحات التي يدلي بها قادة الجيش وضباطه.
بدوره،
أجاب قائد المنطقة الوسطى السابق "إسحق إيتان"، بمنتهى الصراحة، حين سئل
حول عدم وجود هدف واضح للحرب التي تخوضها إسرائيل في الانتفاضة الثانية، وقال:
"هذه طبيعة الأمور بين المستويين العسكري والسياسي، نحن لم نتلقَّ في حياتنا
توصية واضحة من المستوى السياسي".
هكذا جاء رده، وكأنه يقول شيئا معروفا للجميع، في الحالات التي اضطر
فيها الجيش لتنفيذ رغبة الساسة، جاء الثمن الذي دفع مباشرة بعد الانسحاب من لبنان،
متمثلا في مواجهة "باراك" للأيام الأولى للانتفاضة.
الأسابيع
الأولى للانتفاضة شهدت معدلا ثابتا تقريبا في أعداد القتلى، ففي مقابل كل 15
فلسطينيا يقتلون، يقتل إسرائيلي واحد، ما دعا الجيش للتباهي بهذه الأرقام، ويدلل
بها على جدية تأهبه واستعداده، وبالتالي عدالة ما طلبه من موازنات ووسائل لمواجهة
الأحداث الجارية.
النبرة
الحادة أتت على لسان قائد المنطقة الجنوبية "يوم توف سامية" خلال
استقباله لوفد من الكنيست زار غزة خلال الأيام الأولى للانتفاضة: "لن يقول لي
أحد كيف سأنتصر".
وجهة
نظر الجيش كانت تتعاظم كلما استمرت مجريات المعركة، فهو الذي بقي موجودا في
المنطقة، وشدد من ضغوطه على الفلسطينيين، بما في ذلك إجراء عمليات
"الحلاقة"، التي تشمل اقتلاع الأشجار، وإغلاق محاور الطرق الرئيسية،
وإقامة حواجز عسكرية، وفرض عقوبات اقتصادية عالية، كما تضمنت إجراءاته استخدام
الطائرات الحربية وتنفيذ الاغتيالات، تقريبا في كل الحالات تمكنت نظرة الجيش من
تحقيق الانتصار في النهاية، ولذلك لم يكن غريبا أن يعلن "يعلون" نفسه عن
تحقيق الانتصار، لأنه في الوقت الذي يعجز فيه المستوى السياسي عن تعريف أهداف
الحرب، أو تحديد كيفية تحقيقها، يبقى الأمر بيد الجيش فقط.
إشكاليات
هذا الوضع كانت قاسية في المواقف التحولية التي شهدتها الحروب الثلاث الأخيرة على
غزة، حيث توجب على المستوى السياسي إعطاء التعليمات للجيش بعدم التصرف وفقا لنظرته
العسكرية فقط، ومع ذلك لم تصل التعليمات، ولم تصدر عن الساسة، وتبدّى
"تطرف" القيادات العسكرية ليس فقط في التقديرات التشاؤمية بشأن استمرار
المواجهة لفترة طويلة، واحتمال حدوث حروب تمتد خارج فلسطين، بل في المواقف التي
تصدر عنها بشأن بعض القضايا المتعلقة بالاتفاقات.
وقد
رفض رئيس هيئة الأركان "شاؤول موفاز" الحلّ الوسط الذي تقدم به الرئيس
الأمريكي "بيل كلينتون" للتسوية النهائية بين "إسرائيل"
والسلطة الفلسطينية، وقدم رده على المقترحات في إطار وثيقة طرحها في اجتماع لجنة
الخارجية والأمن، وهو موقف مشابه تماما للموقف من الانسحاب من جنوب لبنان، ومن
سيناء.
وشهد
عهد "باراك" ارتفاعا لـ"منسوب" العسكر في السياسة، وبالتالي
لا عجب أن يكون معظم أصحاب القرار من قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وحضورهم في
الإعلام مكثف جدا، وبالتالي فلا غرو إن هيمنت وجهة النظر الأمنية على السجال
السياسي.
ولم
تعبر قوة المنصب العسكري عن نفسها من خلال التصريحات الصحفية فقط، بل عبر الوقائع والأحداث
على الأرض، "موفاز" نفسه كشف النقاب أن اعتقال "مروان
البرغوثي" كانت له تبعات سياسية كثيرة فيما يتعلق بقيام قيادة فلسطينية
مستقبلية في المناطق الفلسطينية، فهذا الاعتقال تمّ بناء على تصرف أحادي من الجيش.
وبعد أن أحاط الجنود بالبيت الذي اختبأ فيه، وصلت معلومة استخبارية ميدانية أنه في
البيت، ثمّ أبلغ رئيس الأركان رئاسة الحكومة أن البرغوثي بين يديه، وألقى الخبر
بظلال من الإرباك على تصورات الحكومة، ولكن لم يكن بإمكانها التراجع عن الشعار
الذي رفعته: دعوا الجيش ينتصر.
وتبدى
تدخل الجيش في السياسة من خلال إصداره "الكتاب الأبيض" ضدّ الرئيس ياسر
عرفات، ودوره في التحريض ضدّ "إسرائيل"، والعمليات الفلسطينية ضدّها،
حيث تحفظ وزير الخارجية "شمعون بيريس" عليه، وجاء من مكتبه أن
"وظيفة الجيش هي الدفاع عن الدولة، وليس الانشغال في كتابة كتب، أو مهام
إعلامية".
وتجلى
دور الجنرالات في ترسيم حدود السياسة، لا سيما أن المنظومتين العسكرية والسياسية
كانتا على الدوام "منضفرتين" ببعضهما البعض، باعتبار أن الذي يقر
الاستراتيجيات وسُلّم الأولويات القومي الإسرائيلي، ليس هيئات تتولاها تعيينات
سياسية، بل أشخاص في البزات العسكرية، وبالتالي غدا الجيش يمثل "الحكومة
الدائمة"، ولم يكن له دور مركزي في السياسة يضاهي ما قام به منذ فترة
"باراك"، وكما هو دوره في ظلّ حكومتي "شارون"، بين عامي
2001-2005.
هذه
الظاهرة الإسرائيلية التي مفادها أن المسألة العملياتية من قبل الجيش تسبق بالعادة
التفكير السياسي، أنتجت حقيقة تؤكد أن الضغط الذي تمارسه هيئة الأركان على
الحكومة، منح الجيش فرصة أن يقرر سلفا ما الذي يريده، ومن ثمّ إبلاغ الحكومة
بقراره، وفي حالات كثيرة غير معدودة في السنوات الأخيرة، اتهم المستوى السياسي
بكشفه عن ثغرات كثيرة في بنيته، كلفت الدولة أعدادا كثيرة في الضحايا.
بل
إن وزراء في المجلس الوزاري يتحدثون أنهم مسؤولون عن عمليات الجيش، رغم عدم تلقيهم
تقريرا مسبقا عنها، ولم يجرِ حولها بحث معمق، وأحيانا كثيرة يطلعون على تفاصيل
العملية من الصحافة، ما دفع رئيس الشاباك السابق "عامي أيالون" للقول إن
"الوسط العسكري يمارس الضغط على المستوى السياسي ويضعفه".
لعل
أوضح عبارة عن هذه العلاقة الشائكة كتبها بخط يده رئيس هيئة أركان الجيش الأسبق
الجنرال "رفائيل إيتان": "إلى قائد جيش الدفاع الإسرائيلي... الدولة...
هي أنت، أنت تحدد مستواها وطابعها في الحاضر ولأجيال قادمة".