منذ مصادقة مجلس النواب على مقترح تعديل الفصل 6 من قانون
الانتخابات البلدية والجهوية؛ الذي يسمح للأمنيين والعسكريين بممارسة حقهم في
التصويت في تلك الانتخابات، أثار موضوع تصويت
الأمنيين سجالا كبيرا بين مختلف الفاعلين الجماعيين داخل الحقلين السياسي والمدني
التونسيين. فتونس الطامحة إلى بناء أمن جمهوري لم تتجاوز بعد ذاكرتها السياسية الجريحة والمرتبطة بتاريخ صدامي ضد المؤسسة الأمنية في اللحظتين الدستورية والتجمعية للحكم، خاصة في أحداث الثورة ما بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و13 كانون الثاني/ يناير 2011.
بعد تأسيس الجمهورية الأولى عقب الاستقلال الصوري عن فرنسا، نجح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في إبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية، وهو ما ساهم في بناء جيش وطني لا يتدخل في الشأن السياسي ولا يتولى الحكم مباشرة، كما هو الشأن في العديد من الدكتاتوريات. ولكنّ ذلك لم يكن هو شأن المؤسسة الأمنية التي كانت اليد الضاربة للمنظومة الحاكمة في كل الأزمات الدورية التي هددت منظومة الحكم. وقد كانت المؤسسة الأمنية في عهدي الراحل بورقيبة والمخلوع ابن علي؛ انعكاسا أمينا لبنية السلطة والثروة في تونس، تلك البنية ذات الأساس الجهوي- الأيديولوجي المعلوم.
في عهد حكومة السيد
باجي قائد السبسي التي حكمت تونس خلال المرحلة التأسيسية، ظهر مشروع لإصلاح المؤسسة الأمنية. ولكنّ طبيعة الجهة المشرفة (حكومة غير ثورية تسند مهمة الإصلاح الأمني لشخصية أقل ما يقال عنها أنها "مشبوهة" في علاقاتها بنظام المخلوع، ألا هو السيد الأزهر العكرمي) وظهور نقابات أمنية كان أغلبها "مسيسا" ومرتبطا بفاعلين سياسيين ينتمي أغلبهم إلى ورثة النظام البائد وحلفائهم في "العائلة الديمقراطية"، كل ذلك جعل من حلم بناء "أمن جمهوري" يضعف، كما أعاد العلاقة بين الفاعلين المدنيين والمؤسسة الأمنية - خاصة النقابات - إلى دائرة التصادم أو على الأقل إلى دائرة الاتهامات المتبادلة.
في سنة 2017، سنّ المشرّع التونسي قانونا يمنح للمرة الأولى في تاريخ تونس حاملي السلاح حق التصويت في الانتخابات البلدية. وبصرف النظر عن المنطق الذي احتكم إليه المشرع في حصر هذا الحق ضمن الحكم المحلي، وعدم تعميمه إلى الاستحقاقات النيابية والرئاسية، فإنّ دخول الأمنيين إلى دائرة الفعل السياسي المباشر جعل منهم رقما مهما (على الأقل في المستوى الرمزي) في الاستراتيجيات الاتصالية لمختلف الأحزاب. فرغم أن الأمنيين والعسكريين المسجلين (أكثر من 36 ألف شخص) لا يمثلون إلا 0,67 في المئة من السجل الانتخابي، فإنهم يمثلون قوة نوعية ورمزية يحسب لها السياسيون ألف حساب.
يُظهر لنا السجال العام الذي أعقب الإعلان عن
نسب التصويت الضعيفة بين حملة السلاح من الأمنيين والعسكريين (شارك في عملية الاقتراع 4492 من حاملي السلاح، من جملة 36495 مسجّلا بين أمنيين وعسكريين في الانتخابات البلدية) أن الرهان الحقيقي هو داخل المؤسسة الأمنية وليس داخل المؤسسة العسكرية. لذلك، نلاحظ أن أغلب التعليقات قد انحصرت في دلالات امتناع الأمنيين عن التصويت، وليس امتناع العسكريين. وبحكم غياب معطيات رسمية تهم نسب التصويت داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، فإننا لا نستطيع بناء استنتاجات مفصلة في دلالات نسبة التصويت الضعيفة داخل كل مؤسسة على حدة، ولكننا نستطيع فقط أن نتحدث عن توجه عام بين الأمنيين والعسكريين للامتناع عن التصويت.
وقد اختلفت تأويلات المشتغلين بالشأن العام في فهم هذا الامتناع ودلالاته. ويمكننا لتبسيط الصورة أن نتحدث عن موقفين كبيرين لدى المشتغلين بالشأن العام: يُفسر أصحاب الموقف الأول نسبة الإقبال الضعيفة لحاملي السلاح على مراكز التصويت بأنها تعبير عن موقف "احتجاجي" يعكس انعدام الثقة في النخبة السياسية. فالأمني، في نهاية التحليل، هو مواطن له موقف لا يختلف كثيرا عن موقف باقي المواطنين المدنيين من "رجال الدولة". ويبني أصحاب هذا الرأي؛ على نسبة الإقبال الضعيفة لدى الأمنيين قراءة استشرافية لما سيكون عليه إقبال المدنيين يوم 6 أيار/ مايو 2018، ويرون أنها ستكون نسبة ضعيفة، بل ستكون الأضعف بعد الثورة، بحكم فقدان الثقة في النخبة السياسية والأحزاب. أما الموقف الثاني، فيفسر أصحابه نسبة إقبال الأمنيين الضعيفة على مراكز الاقتراع بكونها موقفا "مبدئيا" لا يرتبط بأداء النخبة السياسية، بل يدل على وعي مواطني بين حاملي السلاح ورفض للانخراط في التجاذبات السياسية التي قد تعيق بناء "أمن جمهوري".
ولا شك عندنا في وجود نسبة من الوجاهة في الرأيين معا، وهو ما يعني استحالة الحسم في هذه المسألة بناء على المعطيات المتوفرة حاليا. فبناء استنتاجات سليمة أو توقعات جدية انطلاقا من نسبة مشاركة حاملي السلاح في الانتخابات البلدية؛ هو أمر متعذر إلا بضرب من التعسف. وللتمثيل على لا يقينية الاستنتاجات وظنيتها، يمكننا أن نأخذ متغيرا واحدا من المتغيرات المعتمدة في عملية التحليل، ألا وهو دعوة بعض النقابات الأمنية الكبرى (النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي) إلى مقاطعة الانتخابات. فهذه الدعوة - مثلا - قد تكون عاملا من العوامل المؤثرة في النتائج، ولكنها لا يمكن أن تفسر الامتناع الا لدى الأمنيين، ولا يمكنها تفسير امتناع العسكريين مثلا عن التصويت، كما أن تلك الدعوة قد تكون قراءة صحيحة للمزاج الأمني أو للتوجه العام بين الأمنيين أكثر مما هي عامل مؤثر و"حاسم" في قرار الامتناع.
سواء أكان امتناع حاملي السلاح عن التصويت راجعا إلى موقف مبدئي يرفض تسييس المؤسسات السيادية، أم كان موقفا احتجاجيا يبعث برسالة قوية إلى النخب السياسية بمختلف أحزابها، فإنه سيؤثر بقدر بسيط على نسبة الإقبال بين المدنيين في الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها يوم الأحد القادم. وهو تأثير ضعيف وغير حاسم؛ لأنّ ما سيُحدد نسبة الإقبال وتوجهات التصويت هو عوامل أخرى؛ قد نعود إليها بالتفصيل في مقال لاحق بإذن الله.