ليس هناك من تعريف قاطع للدولة؛ التي تعتبر حجر الزاوية في النظام الدولي والوحدة الأساسية للعلاقات بين الأمم وتكوين المنظمات الدولية، على أن التعريف الأشهر هو ذاك الذي صكه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر؛ بأنها "المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر شرعية العنف"، وهو معنى محمول على كل أشكال ومعاني السيطرة والهيمنة والقهر. ولكن المشكلة أن
الدولة، وكما كل المفاهيم ذات الامتداد التاريخي، لا يمكن تعريفها في صورة جامعة وقاطعة، بل هي مفهوم ومؤسسة ذات صيرورة (تتغير وتتبدل) تأخذ صوراً وتكتسب سمات، وتستبطن معاني وتختلف باختلاف الحقبة التاريخية واختلاف الموقع والسياق.
وبالرغم من ذلك، فهناك تسميات تمنح المصطلح فهما وتعريفا قريبا من جوهر الأمر، مثل "الدولة القومية" و"الدولة الحديثة" سنجد أن مصطلح الدولة الحديثة أكثر تداولا وشمولاً، وهو يشمل الدول التي تؤكد سمتها القومي، أو الأخرى التي تحاول أن تتجنب الإشارة إلى البعد القومي بدون أن تغفله تماما.
الحكاية تقول إن الجذور التاريخية لمؤسسة الدولة الحديثة بتجلياتها المتعددة تعود إلى صلح وستفاليا في 1648؛ الذي وضع نهاية لحروب الثلاثين عاماً (1616-1648). (الغرب يرى ضرورة أن تخوض المنطقة العربية الآن حربا شبيهه بها، كما قال جوزيف ناي، الأستاذ في كلية العلوم الحكومية بجامعة هارفارد)، وذلك عندما كانت أوروبا تعيش نهايات عصر النهضة، وبدايات تكون الطبقات الوسطى، مع استمرار الصراعات الدينية بعد ظهور البروتستانتية، وصراعات الأمراء والملوك والكنيسة والإقطاع في وستفاليا. فقد وضعت أسس فكرة الاستقلال السياسي والتطابق بين حكم معين وحدود الكيان الذي يخضع لسيطرته.
بعدها شهدت أوروبا ثورتين كبريين، الإنكليزية والفرنسية، فالأولى دفعت باتجاه فكرة "الاجتماع السياسي التسامحي"، أي السياسة ثم السياسة ثم السياسة، وحققت قفزة ملموسة باتجاه انتقال الدولة إلى مؤسسة تعبر عن إرادة الأمة.
أما الثورة الفرنسية، فقد أعلت من شأن فكرة
المواطنة والمساواة أمام القانون، كما لم يحدث أبدا من قبل في التاريخ الأوروبي في كل وقت وفي كل مكان.. أكدت الطابع القومي للدولة باعتبارها الجامع لثلاثة ركائز: السلطة والمجتمع والأمة، على الرغم من أن فكرة الأمة بمعناها الحضاري العميق ليس لها الصلابة والثبات والتجدد الدائم، كما في الإسلام وتاريخه ورجاله وعلمائه وأعراقه العديدة، وقبل كل ذلك في رسالته ونصوصها، وما تركه نبي هذه الرسالة من موروث أخلاقي وتشريعي ممدود وموصول بأرفع وأرقى وأقوى المفاهيم عن الإنسان وكرامته ووحدة منشأة ومصيره (كلكم لآدم وآدم من تراب).
نظلم الوطن كثيرا حين نخلط بينه وبين الدولة.. هذا تجن على الوطن وإخلال بحقه، وانتقاص كبير من ظلاله الوارفة فوق الأرض وشعب هذه الأرض. الوطن ليس شعارا سياسي أو طائفيا، أو حالة اقتصادية وثقافية خاضعة للظروف والمتغيرات.. الوطن ليس جهة معينة أو لهجة خاصة.. الوطن وحبه والانتماء إليه أساس ثابت وواسع كسعة أرجائه وأطرافه وأكثر.. الوطن هو الحاضن لنا باختلاف أجناسنا وأصولنا وألواننا وأعراقنا، هو الأمان وهو الجغرافيا والتاريخ وبالأحرى هو نحــن، مهما تعددت ثقافاتنا وانتماءاتنا وتوجهاتنا، وتفاوتت أفكارنا ورؤانا، والدولة لا تكون إلا في خدمة الوطن أو لا تكون.
من أمانة القول والنظر أيضا؛ أن نرى الحد الفاصل بين السلطة والدولة.. هما ليسا شيئا واحدا. فرق شاسع بين المفهومين.. الدولة لها أركان ثابتة دائمة وصلبة يدخلون ويخرجون منها، وهي محفوظة القوام والقيمة والقدرة والقوة، أما السلطة فهي زائلة ومتغيره. السلطة ما هي إلا آلة تسيير أمور الدولة بموجب القوانين والشرائع المبثوثة في كيان الدولة.
مثل هذه التعريفات يجب أن تكون واضحة التحديد، والخلط بينها فيه خبث رذيل وجهالة جهلاء. والمدهش أنك قد تفهم الخلط بينها عند أصحاب المصالح في السلطة (أي سلطة)، أما باقي السياسيين (إسلاميين ويساريين وقوميين).. كيف يكون ذلك؟ لماذا لم يؤكدوا في نضالاتهم السياسية على مدار العقود الماضية على الفوارق بين هذه الكيانات، اصطلاحا وممارسة وتوعية وحركة بين الناس، وتطهيرا لهم من ميراث حكم وسلطة "الشلل والصحوبيات" التي غرسها عميقا انقلاب 1952، وتحصينا لهم من التلاعب و لتمويه والمخاتلة؟ لن أذهب بعيدا، سأستدعي رأيا من أحشاء جيل السبيعنيات الذين واتتهم الفرصة ولم يواتوها.. إنها الطبيبة الراحلة "أروى صالح"، وما ذكرته ووضعته على رصيف العراء - كما يقولون - في كتابها "المبتسرون"، فقالت: إنهم لم يكونوا معنيين بالنضال الوطني! هم فقط كانوا في "صراع صامت حول النجومية".
المستحيل الذي لا يمكن انتظاره؛ لأنه بالفعل "خشبة الخلاص" من الأزمات التي تلد أزمات ومن النكسات التي تلد نكسات ومن الخيبات التي تلد خيبات، هو فكرة "التناوب على السلطة" لإدارة الدولة وتسيير شؤون الوطن.. هكذا يجب أن نرى الحقيقة في أم عينيها.
من المهم أن نتذكر أنه قبل 1952م في
مصر، كان النظام الملكي يتجه نحو الأخذ بنظام "الملكية الدستورية"، وكانت الأحزاب، على ما بها من عيوب في تكوينها وقادتها، تتنافس على الانتخابات وعضوية البرلمان وتولي رئاسة الوزراء، وكان الحاضر دائما أفضل من الماضي. نعم، كان كل غد أفضل من كل أمس، رغم كل ما كان يدور في المنطقة كلها بعد الحرب العالمية الثانية. كان منحنى الصعود يشير إلى مستقبل متنام ومتصاعد، مستقبل أزهى سياسيا وحزبيا وشعبيا ووطنيا، إلى أن دخل الجيش في السياسة (والتعبير للرئيس الأسبق أنور السادات)، وأصبحت الدولة والسلطة والوطن تحت إشرافه التام. في النهاية، لا يسعنا القول إلا أنها كانت تجربة، وحكام الستين عاما الماضية، مهما خطّأناهم وعددنا خطاياهم، إلا أنهم أضافوا إلى الوعي التاريخي لنا وللوطن رصيدا كبيرا؛ فيه الكثير والكثير حول مسألة السلطة والحكم.. سنوات طرحت في مساراتها أسئلة كثيرة. صحيح أن كل ذلك كان من ارض التجربة والخطأ والفشل في تحقيق الوعود التي وعدوها وصدقناها ولم يصدقوا فيها، لكنه ترك تراكما كميا ضخما مما يمكن أن تحكيه كل الحكايات من مثالب قاتلة. وكم من فشل كان إيذانا بميلاد جديد ليس فيه ما كان من خطأ وفشل.