حين غنت أم كلثوم في العام 1964 "إنما للصبر حدود"، كانت توجه كلماتها التي كتبها الشاعر عبد الوهاب محمد لحبيبها الافتراضي، والذي أتحفها بوعود كثيرة لم يف بشيء منها. ولكن كلمات الأغنية ذاتها تجسد حالة قطاعات كبيرة من الشعب
المصري وثقت بوعود السيسي، ومعسول كلامه، وصبرت عليه كثيرا. لكن الكيل فاض بها، (ما تصبرنيش بوعود وكلام معسول وعهود)، (ما تصبرنيش ما خلاص أنا فاض بيه ومليت).. نعم للصبر حدود، فهذه سنة كونية تنطبق على كل كائن حي، وقديما قالوا: "القشة التي قصمت ظهر البعير" للتدليل على وصول القدرة على التحمل إلى نهايتها، بحيث لم تعد تحتمل قشة واحدة، وهي التي احتملت من قبل أطنانا.
كانت
انتفاضة المترو التي شهدتها القاهرة يوم السبت (12 أيار/ مايو)؛ مؤشرا لفراغ صبر المواطنين المصريين البسطاء، والذين تحملوا الكثير من زيادات
أسعار السلع والخدمات على مدى السنوات الخمس الماضية، في انتظار الفرج الذي وعدهم به السيسي بأن تكون مصر "قد الدنيا"، ولكنهم فوجئوا بتحطم كل الوعود، وأن مصر تعود للخلف سريعا، وتفقد الكثير من قوتها، ويتحملون هم فقط كل الأعباء، بينما تعيش أعداد قليلة من المواطنين حياة مرفهة؛ لا يشعرون فيها بمشاكل أسعار ولا
مواصلات، بل تقوم السلطة بزيادة رواتبهم تباعا، ومنهم رجال الجيش والشرطة والقضاة..
حين قررت السلطات المصرية
رفع تذكرة المترو بنسبة 250 في المئة (من جنيهين إلى سبعة جنيهات) لم تكن تتوقع
رد فعل شعبيا تجاه هذه الخطوة، بعد أن جربت الشعب في زيادات سابقة لأسعار
المترو ذاته قبل نحو عام؛ حين زادت التذكرة 100 في المئة (من جنيه واحد إلى جنيهين)، وفي زيادات أخرى لأسعار الكهرباء والسلع الأساسية، وكانت في كل مرة تشيد بصبر المواطنين، وتحملهم تلك الزيادات (من أجل مصر) ومن أجل مستقبل أفضل، كانت السلطة تدرك في قرارة نفسها أن غياب رد الفعل الغاضب على تلك الزيادات ليس حبا فيها، بل خوفا من آلة القمع الأمني الجبارة، والتي تستخدمها السلطة ضد معارضيها، وتصل إلى حد التصفية الجسدية في الشوارع، والقتل البطيء في السجون، وإصدار أحكام إعدام بلا أدلة، ناهيك عن التعذيب القمعي الاعتيادي في أقسام الشرطة والسجون الأخرى.
وحتى الكثير من القوى السياسية كانت قد بدأت تفقد الأمل تدريجيا من انفجار
الغضب الشعبي ضد سياسات السلطة، لكن انتفاضة المترو (حتى وإن كانت قصيرة النفس لبضع ساعات)، إلا أنها أرسلت رسالة مزدوجة للسلطة والمعارضة، بأن صبر الشعب وصل إلى نهايته، وأن رصيد السلطة لديه نفد، وأنه قد يكرر غضبته وبطريقة أوسع في مرات قادمة مع أي زيادات جديدة للأسعار، وهو أمر متوقع خلال أيام وحتى آخر حزيران/ يونيو المقبل، حيث يبدأ العمل بالموازنة الجديدة مطلع تموز/ يوليو، بعد أن تكون السلطة قد نفذت تعهداتها لصندوق النقد برفع الدعم عن الطاقة والسلع الرئيسية الأخرى، في سبيل الحصول على الشريحة الجديدة من قرض الصندوق، وهي زيادات ستطال أسعار فواتير الكهرباء والماء والطاقة عموما.
يستخدم المترو ثلاثة ملايين مصري يوميا، وهو ما يعادل عدد مواطني بضع دول خليجية، بمن فيهم الأطفال والعجائز. وينتمي مستخدمو المترو غالبا لطبقة الموظفين محدودي الدخل، وهم يدركون أن زيادة تذكرة المترو ستمتد لزيادات في وسائل المواصلات الأخرى، وهو ما حدث فعلا من سيارات الأجرة (القطاع الخاص)، كما أنها ستمتد لسلع وخدمات أخرى، ولن تستطيع رواتبهم المحدودة مواجهة هذه الزيادات.
ربما شعر المواطنون بالمفاجأة أو الطعنة من زيادة سعر التذكرة بهذه النسبة الكبيرة (250 في المئة)، بعد أن احتملوا قبل عام زيادة سعر التذكرة بنسبة 100 في المئة بحجة مواجهة العجز المالي لهيئة المترو، والذي بلغ خلال العام الماضي وقبل تلك الزيادة 200 مليون، حسب تصريحات وزير النقل الحالي ذاته (بلغت الإيرادات 720 مليون جنيه والمصروفات 916 مليون جنيه)، ومن المفترض بعد زيادة السنة الماضية أن هيئة المترو غطت ذلك العجز، بل حققت وفرة، إذ المفترض أن رفع سعر التذكرة من جنيه إلى جنيهين يرفع الإيرادات من 720 مليون جنيه إلى مليار و400 مليون جنيه، لكن لأن هيئة المترو تمثل "تكية" لحفنة من الجنرالات، فقد ذهبت غالبية الإيرادات (80 في المئة) كمكافآت وبدلات لهم ولموظفي المترو، وهو ما يتوقع أن يتكرر مع الزيادة الجديدة.
في مواجهة مطالب صندوق النقد الدولي تلجا سلطة الانقلاب دوما إلى الحلول السهلة والتي يتحملها البسطاء، فترفع أسعار السلع الأساسية والخدمات الجماهيرية مثل رفع تذاكر المترو والسكك الحديدية والنقل العام، والخدمات الطبية مثل جلسة الغسيل الكلوي (من 200 إلى 400 جنيه للمرة الواحدة)، لكنها لا تقترب من الطبقات العليا. فقد أجلت فرض ضريبة البورصة ثلاث سنوات، ورفضت زيادة شرائح الضرائب التصاعدية، كما رفعت رفع حد الإعفاء الضريبي إلى 24 الف جنيه، وهذا ما يكشف انحيازات هذه السلطة للأغنياء على حساب الفقراء، وهو ما يفضح مجددا أكذوبة السيسي أن "هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه".
في انتفاضة المترو حاولت السلطة ضبط أدائها الأمني في مواجهة الاحتجاجات، لكنها لم تصبر كثيرا حين وجدت تلك الاحتجاجات تتسع وتمتد عبر العديد من محطات المترو، كما تصاعدت إلى حد تحطيم بعض بوابات المرور، وتعطيل حركة سير المترو بالجلوس على قضبانه الحديدية، فعادت إلى استخدام القوة التي تجيد استخدامها، وألقت القبض على العشرات من المحتجين السلميين، استباقا لدعوة عامة للإضراب، وعدم استخدام المترو لبعض الوقت، ولم تكتف السلطة باعتقال عشرات الركاب المحتجين بل راحت تتهم الإخوان - كالعادة - بالوقوف خلف تلك الاحتجاجات، وتنظيمها، وهي التي ما فتئت تتحدث من قبل عن قضائها التام على جماعة الإخوان!!