هناك فرق في الأدبيات العسكرية بين أن تشن حربا في بلد وأن تشن حربا عليها. في هذه الحالة الأخيرة يتم استهداف الحجر والشجر والبشر (كما يحدث في شبه جزيرة
سيناء) باستخدام كل الأسلحة الحربية والإعلامية. أما في الحالة الأولى، فتكون البلد أو البقعة الجغرافية مسرحا للعمليات العسكرية وحسب.
إن التقرير الأخير الذي نشرته منظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الإنسان هو واحد من أخطر التقارير التي ترصد الوضع الميداني هناك. إذ تم رصد هدم ثلاثة آلاف منزل وبناية تجارية خلال ثلاثة أشهر فقط، منذ شباط/ فبراير الماضي، بواقع هدم ألف بناية ومنزل كل شهر، وهو ما دعا المنظمة لوصف حملة الإخلاء والهدم هذه المرة بالأكبر منذ أربع سنوات، عندما بدأ الجيش
المصري هذه العمليات في أراضي سيناء عام 2014.
الحديث كان يدور في الماضي عن مسألة إخلاء رفح وإقامة شريط عازل مع قطاع غزة، لكن الأمر امتد للعريش الآن. وذكر بيان لتجمع عشائري بالعريش أن هناك خشية من تكرار ما حدث في رفح، واستنساخه للعريش كي تصبح خاوية على عروشها. لمصلحة من إذن يتم تدمير وإخلاء عاصمة إقليمية مصرية ذات موقع استراتيجي، وهي عاصمة محافظة شمال سيناء؟ كل هذا يحدث ولم نتطرق بعد للمآسي الإنسانية والخسائر التجارية المترتبة على عمليات الإخلاء هذه، في ظل عدم توفير مساكن بديلة أو تعويضات. حديثنا منصب على الآثار السياسية والجيوستراتيجية عبر التهجير الجماعي قسري والتغيير العمراني وتجريف أراضي، وهي أعمال تخريب لم تقم بها سلطات الاحتلال عندما تم غزو سيناء في الماضي.
تاريخيا، لم تتعرض سيناء لعدوان حربي سوى من الغزاة الأعداء، منذ أيام الفراعنة وحتى العصر الحديث، الأمر الذي يعني أن ما يدور في سيناء حاليا هو أسوأ من وقت الاحتلال. على الأقل أثناء الاحتلال تكون هناك غالبا أشكال مراقبة أممية ودولية، بالإضافة لأساليب مقاومة مشروعة من الأهالي تكبح جماح العمليات العسكرية حين تطال المدنيين ومصالحهم. أما الآن فهناك تعتيم كامل وتخوين لكل من يعترض ومضي قدما في مشروع لا يعلم أحد نهايته. فليس هناك مدى زمني لهذه العمليات ولا كشف حساب عما مضى، كل ما في الأمر هي أعمال تصفيات وقتل وهدم منازل بزعم محاربة الإرهاب من دون كشف حساب لما تم وما سيأتي.
خطورة ما يحدث في سيناء حاليا أنه لن يبقى في سيناء، ولكنه مؤثر على بقية مصر وعلى الدول المحيطة. ولا ننسى أن فلسطين لم يحتلها الإنجليز، ولم يدخل الجنرال اللنبي القدس إلا بعد أن حسموا العمليات العسكرية لصالحهم في الحرب العالمية الأولى سنة 1917، في إطار صراعهم مع العثمانيين والألمان. فإذا اعتبرنا أن غزة هي بوابة الأمن القومي المصري الشرقية، فإن سيناء هي بوابة الأمن القومي الغربية للعديد من الدول العربية، ويشمل هذا دول الخليج والأردن. ولا ننسى أن جزيرتي تيران وصنافير اللتين تم التنازل عنهما هما جزء لا يتجزأ من سيناء، بكل ما يحمله التنازل عنهما من تغيير في المعادلات الإقليمية لغير صالح الأمن القومي للدول العربية المطلة على البحر الأحمر.
ولا ينفصل هذا كله عن استهداف كل من يهتم بهذه البقعة الهامة من أرض مصر، آخرهم الصحفي والباحث إسماعيل الاسكندراني الذي كان مرجعا محليا ودوليا لفهم تركيبة سيناء البشرية والجغرافية والتاريخية، قبل أن يحال للمحاكمة العسكرية ويتم الحكم عليه بعشر سنوات سجن مؤخرا. وهو حكم لم يعلم به كمتهم، وينفيه حتى المتحدث العسكري، رغم نشره في العديد من الصحف المصرية، في مفارقة غريبة، لكنها ليست أغرب من الذي يجري في سيناء ولأهلها.