هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
كان المشهد صادما في حفل إفطار "الحركة المدنية" في المكان ذاته الذي دارت فيه معركة الأهرام قبل 220 عاما (تموز/ يوليو 1798)، التي قال فيها نابليون عبارته الشائعة وهو يلفت نظر قواته لأهرامات الجيزة: "استبسلوا.. إن أربعين قرنا من الزمان تطل عليكم الآن من قمة هذه الأهرامات". كان الجنرال قبل قرنين يخشى من "شهادة التاريخ"، لكن الجنرال اليوم لا يخجل من شيء، فهو لا يأبه بتاريخ أو حاضر أو مستقبل، كل ما يشغله هو إخضاع الجميع عن طريق الصدمة المروعة ونشر الفوبيا، وتكسير أي نواة لمعارضة مشيئته، إنه "الوحش"، كما وصفه توماس هوبز في كتابه الشهير "ليفياثان".
(2)
الليفياثان وحش بحري خرافي له صور مختلفة، أحيانا يصفونه برأس تنين وجسد أفعى، وأحيانا يتخذ شكل الحوت الضخم كما ورد في العهد القديم، ما يعنينا من الوصف أنه وحش قوي جدا وضخم جدا استعمله "هوبز" كتجسيد لصورة الدولة وسلطة الحاكم الذي يسعى لإخضاع الناس حسب اتفاق دنيوي بعيد عن سلطة الدين وبعيد عن تدخل الكنيسة.
وقد كتب هوبز كتابه في مرحلة انتقالية تتسم بالفوضى والحرب الأهلية والمذهبية في إنجلترا (منتصف القرن 17)، وسعى لتكريس سلطة الحكم في يد نظام ملكي واحد مسيطر، بعيد عن ميتافيزيقا الكنيسة وتدخلاتها في إدارة شؤون البلاد والأفراد.
وقال هوبز إن هذه "السلطة المطلقة" هي الضمانة لاستقرار وأمن وسعادة أي مجتمع، لذلك فإن قوة المجتمع لن تتحقق إلا بوجود سلطة حكم قوية مهابة مسيطرة، وهذه القوة لن تتحقق إلا بخوض حروب مستمرة مع أعداء البلاد، وكذلك بوضع منظومة قوانين يتم من خلالها ضبط المواطنين وإجبارهم على طاعة الدولة، وصهر إراداتهم الفردية في إرادة واحدة هي إرادة الحاكم. فالناس يجب أن يخافوا ويطيعوا.. لا يخافون ولا يطيعون الله (كما في الأنظمة القديمة التي فشلت فيها الكنيسة في إسعاد الناس وحماية المجتمعات)، وإنما يخافون الحاكم ويطيعون الدولة ويخضعون لقوانينها وأجهزتها، ولذلك كلما ازدادت قوة وحش الدولة (الليفياثان) كلما عاش الناس في سلام، أو كما شاع المثل "الهوبزي" بين العوام: من خاف سلم!
(3)
في المقال السابق، قدمت جانبا من قصة مواطن أمريكي (مارفن هيمير) قرر أن يخالف "عقد هوبز" ويصارع وحش الدولة في معركة انتحارية تحضر فيها الأمثولة الرمزية أكثر مما يحضر الانتصار؛ لأن الوحش كان قد حطم حياة المواطن تماماً، وأغلق أمامه طريق الوصول لأي نجاح أو سعادة أو إحساس بالكرامة، وبالتالي تساوت الحياة مع الموت في عقل هيمير، فلم يكن صعباً أن يختار التمرد الذي يعيد إليه بعضا من إحساسه بكرامته أو يشبع غرائزه الكامنة في الانتقام وتدمير من دمروه. وقد كان تمرد هيمير - في رأيي - كاشفاً لفشل "الدولة" في إدارة شؤون ناسها، خاصة وأن هوبز نفسه طرح "قوة الدولة" كحل للخروج من مأساة الفرد في أزمنة ما قبل الدولة، مردداً عبارته المعروفة عن بشاعة حياة الإنسان إذا استمر في حياة الغابة، والتي قال فيها: لقد عاش الإنسان قديما حياة بائسة، منعزلة، فقيرة، عنيفة، وبالتالي قصيرة. لكن هذا يمكن أن يتغير إذا انضم لكيان اجتماعي يضمن أمنه وينظم حياته مقابل الخضوع للقوانين والطاعة التامة لسلطة الحكم، ووضع هوبز الحاكم في مكانة تشبه "القداسة"، فهو ليس طرفا في العقد، وليس خاضعا لمحاسبة الناس، بل إن رأيه هو الفيصل وكلمته هي المسموعة، ليس على الشعب وحده، بل على الوزراء والمسؤولين ومؤسسات الإدارة والدفاع، وبهذا العقد المختل استبدل هوبز شمولية الحكم الديني المطلق، بحكم شمولي مطلق آخر للملوك.
وبعد عقود طويلة، تطورت هذه الأفكار الشمولية إلى نوع من ديمقراطية الناس، وتداول الحكم، وتحول الملوك إلى "رمزيات" لا تتقاطع مع إدارة شؤون الناس، لكن الطغاة في بلادٍ مثل بلادنا حافظوا على مكتسبات حكم الكنيسة ومميزات الحكم المطلق لعصر الملوك، وتمسكوا بممارستها حتى في الأنظمة الجمهورية المنتخبة؛ لأن المسألة ببساطة أن كل شيء في هذه الديكتاتوريات أو "الجمهوريات الملكية" يتم تزييفه، بصرف النظر عن الأعلام والشعارات المرفوعة.
(4)
أظن أن من لم يعرف "هوبز" من قبل، ومن لم يقرأ كتابه، سيضعه في خانة واحدة مع أسماء من نوع مصطفى الفقي وفتحي سرور ومصطفى بكري، وفي هذا ظلم لمفكر كان يعيش منذ أربعة قرون تقريبا قبل أن تتطور مفاهيم الحكم، وقبل أن تتطور المجتمعات وطبيعة العلاقات. فقد تأثر هوبز سلباً بمخاطر الفوضى، حتى سعى للربط الشرطي بين "الأمن ودعم الدولة"، لذلك بقيت نظرته لدور وقداسة الدولة هي المعضلة التي لم تتطور والتي ورثها "ببغاوات دعم الدولة" عندنا. فالدولة عند هوبز وحتى الآن لا تزال هي "ليفياثان" الذي يلتهم كل من يعترض طريقه، مع اختلاف الدوافع والمبررات.. لا فرق بين هيمير في كولورادو، وخالد سعيد في الإسكندرية، وبوعزيزي في تونس، وكوليا في روسيا..
أعتقد أن كلا منكم أولى بتذكر ضحايا ليفياثان في بلده، لكنني في الأسبوع المقبل لن أنكفئ على بلدي.. سأحكي لكم حكاية عميقة ذات سمعة دولية، حكاية كوليا مع ليفياثان.