بداية.. لم يكن مفاجئا لي مشهدُ الاعتداء الغاشم والمؤسف يوم 5 حزيران/ يونيو في النادي السويسري على رؤساء بعض الأحزاب السياسية، وأعضاء الحركة المدنية، ووزراء سابقين، وبعضٍ من الشخصيات العامة. وأتذكر هنا أنني قلتُ صراحة إثر انقلاب 3 تموز/ يوليو، أنه لا مكان للحياة السياسية في
مصر، وهو جريٌ إلى الوراء، وبسرعةٍ فائقة، بل نكسةٌ أخرى في تاريخ مصر الحديث، وتوطئةٌ لعودة الممارسات
القمعية، وحكم القبضة الأمنية، والقوة الغاشمة التي بدأت هناك ضد المدنيين، وأغلبهم من طيف الإسلاميين في ميدان رابعة.. وكانت مشاهدَ مروعة بحرق الأحياء، وقتل المئات على أقل تقدير، وبطريقةٍ وصفتها وقتها تقارير منظمات حقوق الإنسان الإقليمية بأنها جريمة استخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة، مما خلَّف مئات القتلى من المتظاهرين والمعتصمين في تلك الميادين، والآلاف من المعتقَلين الذين ما يزالون خلف القضبان، ويتعرضون لقدرٍ ليس بالقليل من الإهمال الطبي والتنكيل المتعمَّد، ولسبلٍ مختلفةٍ من أنواع الظلم المشدد. ووقتها - وحتى الآن - ليس بخافٍ للأسف لسان حال بعضٍ من رموز الحركة المدنية: "إننا ندرك ما هو كائنٌ وحادثٌ لهؤلاء؛ ولكننا نتجاهل علمَنا به".
وفي الوقت الذى اعتبر فيه الانقلاب أن استراتيجية الصدمة تلك والقبضة الأمنية هي البوابة الأوسع لتوطيد سلطته، وشيطنة الكتله الصلبه المنظَّمة وقتها، والمتمثّلة في خصمه السياسي التاريخي؛ جماعة الإخوان المسلمين، والأطياف الأخرى المتحالفة معها من الحركات الإسلامية. وبالطبع، كان من السهل تمرير كل تلك الممارسات والاعتقالات بحق كل مخالف، طالما كان إسلاميّا، فمن السهل كذلك إصباغه بكل أصناف الاتهامات وقبولها، وغض الطرف عنها داخليّا وعالميّا في إطار وصورة نمطية؛ لتسويق النظام في السوق المحلية والعالمية والإقليمية للحرب على الإرهاب المفترض، والذي أصبح واقعا وكابوسا ثقيلا يعيق كل أمل فى تنمية سيناء، ويضاعف من الخوف والقلق على مستقبل سكانها. ورفع مثل هذه الشعارات كافٍ في حد ذاته لصرف الانتباه عن كل الانتهاكات الممنهجة للنظام ضد حقوق الإنسان والحريات الأساسية للشعب المصرى، وشرعنة مصادرة المجال العام، وتجفيف منابع العمل المدني وخنقه، بدلا من تجفيف منابع الفكر المتطرف، ومحاربة الإرهاب واجتثاثه من سيناء، والذي يبدو أنه تم رهنه أيضا لمقايضة النظام، وتنفيذ أجندته الخاصة، والتي كانت بوادرها في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، وحديثه في البيت الأبيض عن رضى وترحيب بما يعرف بصفقة القرن، ولكن ثمة قلق بقي لدى النظام من بعض الأصوات هنا وهناك، وخاصة من غير الإسلاميين.
وكانت الرسالة لرموز واقعة النادي السويسري من الحركة المدنية واضحة ومباشرة، والعصا الغليظة والبلطجية كافين للترهيب والفرز وإعادة التدوير. وأتذكر هنا مع المفارقة البعيدة؛ أنه مع حل التنظيمات الشيوعية في عام 1964م، التحق بالدور الصحفية كذلك العديد من كوادر الصحافة ممن كانوا هدفا لحملة الاعتقال الكبرى في كانون الأول/ ديسمبر 1958 وكانون الثاني/يناير 1959م، وكان من بينهم يساريون أعيدوا إلى عضوية نقابة الصحفيين، وآخرون كانت لهم بمثابة بدايات العمل الصحفي وقتها. وهؤلاء لم يكونوا جميعا بالضرورة متورطين في أداء دور يتناقض مع معتقداتهم؛ فقد كانوا على قناعة ما بأهمية دعم توجهات عبد الناصر وسياساته.
مما لا شك فيه، أنَّ هناك صلة قوية بين مشهد الاعتداء الغاشم على تلك الشخصيات العامة من الحركة المدنية، وهندسة المشهد السياسي القادم، مع ما يشهده المجتمع المصري من أزمات اقتصادية خانقة، وموجات من الغلاء المتفاقم؛ مع تنامي مؤشرات غضب شعبي متوقع ينبئ بمزيد من انهيار قدرة المواطن على تحمل كلفة وفاتورة إملاءات صندوق النقد الدوي وسياساته المجحفة؛ لإحكام طوق التبعية على شعوب هذه المجتمعات، مع عجز واضح للحكومة عن إشباع المتطلبات الأساسية ومستلزمات المعيشة، وتسيير مجريات حياة عموم المصريين، والأغلبية الساحقة من الفقراء ومحدودي الدخل، والعجز عن جلب الاستقرار لهم، وتقويض روح الاستقلال الوطني، وإهدار الحقوق الأساسية بعد إهدار أموال الناس، وتضليل الرأي العام بمشروعات ترويجية لا طائل منها ولا عائد؛ اللهم سوى التجميل والوجاهة السياسية، ولتكن رسالة النظام في فترة رئاسته الثانية: "نعلم ونرى ونسمع حاجةَ ومعاناةَ كلِّ مواطن تحت وطأة احتياجاته الحياتيه؛ ولكم منا الاشباع ضربا".
الخلاصة: تتشابه لحظات وممارسات سطوة السلطة الغاشمة في كل زمان ومكان، وتبقى مسؤولية رد طغيان همجية الاستبداد ومقاومته، مرهونة بلحظة اصطفاف وطني ومصالحة مجتمعية بين سائر الفرقاء، والتحرر من قيود الكراهية والانقسام وتقديم الصالح العام على الشخصي لضمان الاتفاق على المشترك كقوة وطنية لديها موروث قومى ونضالات، وتجرعت كلها، حتى الثمالة من كأس الطغيان والاستبداد.