هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
فعلتها الدكتورة سعاد عبد الرحيم وانتصرت.. صارت أول "شيخة" لمدينة تونس، في الذكرى الستين بعد المئة من تأسيس هذه البلدية العام 1858، وبعدما تناوب العشرات من الرجال، في أجيال عديدة، على رئاستها.. وهي البلدية الأكبر والأعرق في تونس والعالم العربي.. فعلتها الدكتورة سعاد، لتعمق مفارقة تونسية وعربية عجيبة.. فهي أول امرأة تصل حكم المدينة الأكبر في تونس.. تصل رئاستها على قائمة حركة ذات مرجعية إسلامية، هي الأكثر انفتاحا بين نظيراتها العربيات، لكنها توصف عند بعض المغالين بأنها حركة معادية للمرأة.
فبعد دور انتخابي أول تقدمت فيه مرشحة حركة النهضة الدكتورة سعاد عبد الرحيم على السياسي المخضرم كمال ايدير، مرشح حركة نداء تونس؛ التي يقودها حافظ قائد السبسي نجل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، حسمت الدكتورة سعاد الدور الثاني لصالحها، وصارت أول شيخة لمدينة تونس، بعد أن حصلت على 26 صوتا، وحصل منافسها على 22 صوتا فقط، من مجموع 60 مستشارا ناخبا، وانسحب مستشارو التيار الديمقراطي (ثمانية أصوات) والجبهة الشعبية اليسارية (أربعة أصوات) من عملية التصويت في الدور الثاني.
النهضة تكتسح
إضافة للعاصمة تونس، التي كان التنافس فيها حادا جدا، نجحت حركة النهضة في الحصول على أكثر من 120 رئيس بلدية، من نحو 300 بلدية جرى حسم التنافس فيها، حتى كتابة هذه السطور، يتلوها المستقلون الذين حصلوا على رئاسة نحو 100 بلدية، ثم يأتي حزب النداء بنحو 60 رئيس بلدية، ثم باقي الأحزاب بنحو 20 رئيس بلدية.
الأهم بالنسبة للنهضة من الفوز بالعدد الأكبر من رئاسة البلديات هو حصولها على رئاسة تسعة عواصم ولايات من 24 ولاية، فضلا عن بلديات ذات رمزيات خاصة مثل تونس العاصمة، وهي أكبر البلديات وأهمها، ورئاسة بلدية صفاقس، العاصمة الاقتصادية للبلاد، ورئاسة بلدية مدينة القيروان، حيث المسجد الشهير في تونس (جامع عقبة بن نافع الفهري)، وتعتبر العاصمة الروحية للتونسيين، فضلا عن رئاسة بلدية باردو، التي كانت تتخذ عاصمة للملك قبيل الاستقلال، ورئاسة بلدية سكرة، مسقط رأس الباجي قايد السبسي، رئيس الجمهورية الحالي ومؤسس حزب حركة نداء تونس، أبرز منافسي النهضة.
الأهم بالنسبة للنهضة من الفوز بالعدد الأكبر من رئاسة البلديات هو حصولها على رئاسة تسعة عواصم ولايات من 24 ولاية
يرغب البعض في تحويلها من معركة اجتماعية فكرية ثقافية، إلى معركة استقطاب سياسي بين حداثي ورجعي، لإزاحة النهضة من السلطة، إلا أن النهضة ترد بطريقتها الخاصة، بتمكين النساء
الصراع داخل النداء وصل العظم، وبات الصراع بين المنسق العام للحزب، حافظ قايد السبسي نجل الرئيس، وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد؛ صراع موت أو حياة
ليس غريبا تقهقر النداء. فالصراعات التي تعصف به جعلت قواعده ومستشاريه في البلديات يديرون العملية الانتخابية من دون قيادة مركزية توجههم وتسندهم. والحزب الذي عرف انقسامات عديدة منذ فوزه بالانتخابات التشريعية العام 2014، وفوزه برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، شرع في التدحرج الشديد من عليائه، وهو يعيش اليوم أسوأ لحظاته.. فالصراع داخله وصل العظم، وبات الصراع بين المنسق العام للحزب، حافظ قايد السبسي نجل الرئيس، وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد؛ صراع موت أو حياة.. وهو صراع يربح فيه رئيس الحكومة أوراقا جديدة كل يوم، ويحسم المعركة جولة لصالحه بعد جولة، حتى بات قريبا من انتزاع الحزب من منسقه العام الحالي.
حتى المجموعة البرلمانية المخصصة لتقييم أداء الحكومة، والتي شكلها قايد السبسي الابن لتقدم قراءة سلبية لأداء الحكومة، حتى يتم إقناع كتلة النداء في البرلمان بالانفضاض عن رئيس الحكومة، انحازت واقعا لمن كان يفترض أنها أنشئت للإجهاز عليه.. كل ذلك جعل الحزب يتقهقر أكثر في ما كان يعتبره فرصة ثانية للتغلب على حركة النهضة من حيث عدد رؤساء البلديات.
المعارضة دون المأمول
تنتقد العديد من أحزاب المعارضة التونسية بحدة الائتلاف الحاكم، ممثلا خاصة في حزب حركة نداء تونس وشريكه/ غريمه حزب حركة النهضة. وتقدم المعارضة نفسها بديلا للحكم خلفا للحزبين الكبيرين. فقد تحدث الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، حمة الهمامي، في أكثر من مناسبة على أن الجبهة التي تضم 11 حزبا يساريا عروبيا؛ جاهزة لاستلام الحكم، إلا أن نتائج الجبهة وباقي أحزاب المعارضة تبقى بعيدة كل البعد عن أن تكون من مؤشرات جاهزيتها للحكم.
نتائج أحزاب المعارضة تظل بعيدة عما كانت تؤمله تلك الأحزاب، التي تكاد تكون ظواهر صوتية أكثر مما هي أحزاب ذات برامج وماكينات انتخابية تؤهلها للحكم.
فعلى الرغم من أن أحزاب المعارضة نجحت نسبيا في انتزاع نحو 20 رئاسة بلدية من النهضة والنداء والمستقلين، إلا أن نتائجها تظل بعيدة عما كانت تؤمله تلك الأحزاب، التي تكاد تكون ظواهر صوتية أكثر مما هي أحزاب ذات برامج وماكينات انتخابية تؤهلها للحكم.
حملت أحزاب المعارضة في انتخابات 6 أيار/ مايو الماضي الحكومة والائتلاف الحاكم مسؤولية ضعف نسب المشاركة في الانتخابات، التي كانت في حدود 35 في المئة، بزعم أن المقاطعة تعبر عن غضب التونسيين من الائتلاف الحاكم. لكنها تتجاهل أن الغضب من الأحزاب الحاكمة يصب في العادة في صالح المعارضة، وهو ما لم يحصل واقعا، ما يعني أن المعارضة لم تبن ماكينات انتخابية تمكنها من الفوز، ولا كانت قادرة على الاستفادة من غضب الناخب من الائتلاف الحاكم، فظلت هامشية على سطح السياسة التونسي، أشبه بالطبل أجوف لكن صوته عال جدا.
خطر التعطيل
بعد أن أوشكت عملية انتخاب رؤساء البلديات على أن تصل إلى منتهاها، ينتظر التونسيون من بلدياتهم المنتخبة أن تشمر على ساعد الجد، وأن تباشر عملا كثيرا ينتظرها، بعد سبع سنوات من الثورة حصلت فيها انفلاتات كثيرة توشك أن تشوه وجه المدن التونسية. فالأوساخ باتت ظاهرة تفسد بشدة منظر الكثير من المدن وتهدد صحة السكان، والبنية التحتية في حاجة عاجلة لإصلاحات كبيرة، ونقص المياه يهدد العديد من السكان بالعطش.
يخشى التونسيون من أن تغرق العديد من بلدياتهم المنتخبة في صراعات بين المستشارين البلديين على النفوذ والسلطة ومغانم الحكم
لكن مع تلك الانتظارات، يخشى التونسيون من أن تغرق العديد من بلدياتهم المنتخبة في صراعات بين المستشارين البلديين على النفوذ والسلطة ومغانم الحكم، وأن يعرقل بعضهم بعضا، بسبب تلك الصراعات. فالنظام الانتخابي، القائم على النسبية مع أكبر البقايا، جعل الهيئات المنتخبة بمثابة فسيفساء من الأحزاب والتيارات والمستقلين، وهو ما يُخشى معه من أن يكون سببا في التعطيل عن العمل، بدلا من تظافر الجهود وتعاون بعضها مع بعض لمواجهة التحديات الكثيرة.
بين الآمال والمخاوف يعيش التونسيون هذه الأيام.. لكنهم يشعرون أن ثورتهم تتقدم، وتنتقل يوما بعد يوم من صخب الشارع وغضبه إلى قلب مؤسسات الدولة، تطهرها بالتدريج من أدران وبقايا سنين الدكتاتورية الطويلة.