قبل عقدين من الزمن، وتحديدا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، دخلت
الديمقراطية في معادلة الصراعات الاستراتيجية، وأصبحت لعبة المصالح الدولية تقرأ من زاويتها على الأقل بالنسبة لبعض الفاعلين الدوليين، ووقع التباين الشديد بين أمريكا وأوربا حول من تكون له الأولوية الديمقراطية أو الأمن.
ملخص هذه الصراعات الاستراتيجية، أن تأمين المصالح يمر دائما بوجود أنظمة حليفة قادرة على الحفاظ على الاستقرار، وتنال الدعم من الدول الغربية للاعتبارين الاثنين، أي تأمين مصالحها مع حفاظها على الاستقرار.
بعد دخول الاستقرار دائرة الشك، واقتراب التهديد من المصالح الغربية، دخلت الديمقراطية معادلة الصراعات الاستراتيجية، وطرحت أولوية نشر الديمقراطية ودعم تجارب الاندماج السياسي للإسلاميين، لتوسيع دائرة المشاركة، ومحاصرة التطرف، وتقوية معاملات الاستقرار، الكفيلة بضمان المصالح الغربية.
وجهة النظر المحافظة كانت دائما تجنح لأولوية الأمن، وتغليب مخاطر وصول خصوم الغرب إلى مربع السلطة، والاكتفاء بالنظرية التقليدية الداعمة للأنظمة الاستبدادية.
لكن، بعد تقييم ربيع الشعوب، والتحولات الإقليمية والاستراتيجية التي حدثت في المنطقة، وبعد دخول النظام العالمي مرحلة فقدان القيادة، وغياب قوانين تأطير المصالح الدولية المتناقضة، تمت إعادة تقييم مفردات السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية، لجهة إبعاد قضية الديمقراطية بالكامل من دائرة الاعتبار الاستراتيجي، وتأسيس السياسة على الوضوح الاستراتيجي، دون إدخال معامل الشعوب في الاعتبار، ولا اعتبارات الدمقرطة وحقوق الإنسان، ولا الضمير الإنساني، وغيرها من قضايا القيم والأخلاق التي كانت تضفي غطاء سياسيا على السياسات الدولية.
رقعة الوضوح الاستراتيجي ظهرت بشكل كبير في سوريا، فلم يعد الفاعل الأجنبي بها منشغلا بالدمقرطة ومحاربة الاستبداد، ولا بالدفاع عن حياة الإنسان التي يتهددها السلاح الكيماوي، ولا برفع المعاناة الإنسانية عن شعب قهرته تناقضات الإرادات الدولية، وإنما صار المهم في هذا الصراع كله، هو فصل الحدود بين منظومات أمن، وتأمين الحدود الجنوبية، ومنع حزب الله وإيران من التموقع الاستراتيجي قرب هضبة الجولان المحتلة.
الوضوح نفسه ظهر على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، إذ تغيرت بالكامل محددات منظومة الأمن الإسرائيلي، وتوسعت بشكل غير مسبوق، ودخل الفاعل الخليجي (من خلال السعودية والإمارات والبحرين) في صلبها، بعد أن كانت المنظومة في السابق ترتهن إلى ما يسمى بدول الاعتدال (مصر والأردن)، التي تحتفظ بحدود وعلاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني.
أما على الواجهة اليمنية، فقد كانت الأسبق إلى تجلية هذا الوضوح الاستراتيجي؛ ليس فقط من خلال بناء تحالف دولي برعاية السعودية لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، ولكن أيضا من خلال الرهان على تحقيق مآرب استراتيجية في جنوبه، والسيطرة على موانئ وممرات مائية إستراتيجية على الشاكلة التي تتصرف بها الإمارات العربية المتحدة في ميناء الحديدة.
البعض يرى أن هذه الوقائع ليست أكثر من مؤشرات تبلور سلوك إقليمي تقوده السعودية والإمارات في المنطقة، وأنه لا ينحصر في منطقة الخليج ولا الشرق الأوسط، ولكنه يتمدد أيضا في منطقة المغرب العربي، وأن الدور الإماراتي في ليبيا، والحديث عن دور إماراتي في انقلاب تم كشف خيوطه في تونس، يؤكد بداية تشكل هذا السلوك الإقليمي.
والواقع، أن الأمر ليس بهذا الأفق الاستراتيجي. فالسعودية التي تشتكي من اختراق جدارها الأمني من جهة اليمن، والإمارات التي تفتقد الحصانة الديمغرافية لمواجهة أي اهتزاز، لا تمتلكان مقومات الامتداد الإقليمي؛ إلا أن تكون أداتين ماليتين في سياسة دولية تقوم على قاعدة الوضوح الاستراتيجي.
والحقيقة أن هذه السياسة لم تغير كثيرا من مقاصدها الاستراتيجية، فلا يزال ثالوث توسيع المصالح الأمريكية، والحفاظ على أمن إسرائيل، وضمان تدفق النفط هو عنوانها، إنما الذي يجري اليوم تغييره، هو تدقيق في المفردات، وتوسيع في الفاعلين، وإحداث تغييرات في الوظائف.
يشمل تدقيق المفردات، توسيع مفهوم منظومة الأمن الإسرائيلي، فلم يعد ممكنا بعد وصول مرسي لحكم مصر أن تبقى هذه المنظومة جامدة تنتظر المخاطر، بل لا بد لها بدلا من توقع المخاطر، أن تتقدم خطوات للأمام، وتدمج فاعلين آخرين بأدوار جديدة وأكيدة، حتى ولو احتمل الأمر من الناحية الاستراتيجية ضم منظومة الأمن الإسرائيلي لمنظومة الأمن الخليجي ودمجهما، وتحديد العدو الاستراتيجي الموحد (إيران وحلفاؤها في المنطقة).
أما تركيا، فعدو استراتيجي من نوع آخر، ولا يستغنى في دائرة الوضوح الاستراتيجي؛ عن أن يتم التحالف الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي، والسند المالي السعودي الإماراتي، لاستهداف اقتصاد هذه الدولة ومحاولة التأثير على مزاج ناخبيها، وتكييف تصويتهم ضد زعيمهم طيب رجب أردوغان.
هذه المؤشرات، أو الوقائع، لا تعني أن العالم تحكمه سياسة واحدة، تسير ببوصلة استراتيجية موحدة لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية، ومحاصرة النفوذ الإيراني والتركي، ثم تنفيذ ما تبقى من الأجندة الإسرائيلية في المنطقة. فالفشل والإخفاق الذي لاحق هذه السياسة في العديد من الجولات والمناطق، يعكس واقع التناقض في السياسات الدولية، وصور الممانعة التي تبديها عدد من الدول العربية. وهي الأخرى تؤشر على وجود هامش كبير من ممارسة السيادة واستقلال القرار السياسي، فقد فشل التحالف في اليمن، وفشلت محاولات وضع لبنان في الكماشة، ولم تستطع السياسة الأمريكية أن تحاصر النفوذ الإيراني في سوريا ولا حتى في اليمن. وأخفقت كل محاولات تدمير العملة واستهداف الاقتصاد التركي في منع الناخبين من التصويت على رجب طيب أردوغان، كما فشلت السياسة الأمريكية والإسرائيلية في محاصرة المقاومة الفلسطينية، ولم تستطع أن تمنع
الإسلاميين في تونس والمغرب من الاستمرار شركاء في تدبير الحكم، رغم تحول مزاج السياسة الدولية اتجاه الديمقراطية.
الخلاصة، أن تغير تكتيكيات السياسة الدولية، ومحاولة توسيع خارطة الفاعلين، وبالتحديد الفاعل الخليجي، والرهان على بعض وظائفه المالية والسياسية، لم يمنع من استمرار هوامش واسعة للمناورة.. استغلتها الدول، وحتى الحركات المقاومة، لتمارس بها سيادتها، وتجسد استقرار قرارها، وتمسكها بثوابتها، وتعبيرها بكل الوضوح الاستراتيجي من جانبها عن مقاومتها لهذه السياسة التي تضرب في العمق ما تبقى من المشترك العربي.
والخلاصة بالنسبة للحركات الديمقراطية، وفي مقدمتها الحركات الإسلامية، أن تدقيق مفردات هذه السياسة الدولية، وتوسيع خارطة الفاعلين، والرهان على وظائف جديدة، والاستغناء عن الديمقراطية في معادلة الصراع الاستراتيجي من جانبها.. لا يعني أن المرحلة بالنسبة إليهم لا تتعدى الحفاظ على المكتسبات أو الجوهري فيها، وإنما تتطلب المرحلة الفهم الدقيق بالهوامش الموجودة، والتناقضات الاستراتيجية الآخذة في التوسع، والصراعات الجديدة التي أضحت مفتوحة وبعيدة عن
العالم العربي، لترتيب وعي جديد بأهمية تحقيق تراكمات مهمة في المسار الديمقراطي، وفي تجربة اندماجهم في النسق السياسي.