هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يبدو أن أزمة الخليج وحصار قطر المضروب عليها منذ أكثر من سنة لم يستنفذ كل أسلحته فقد عادت مجموعة الحصار إلى التعنت والمجاهرة بالعداء عبر فرض الأمر الواقع ومنع الحجاج القطريين من الحج كما دأبوا على ذلك منذ آلاف السنين برا وجوا. العقوبة جماعية لأنها تستهدف المسلمين في أخص خصوصياتهم وفي علاقتهم بدينهم وشعائرهم المقدسة. العقوبة خطيرة جدا أيضا لأنها تحوّل الركن الخامس للإسلام إلى أداة سياسية بامتياز وإلى سلاح لتصفية حسابات لا علاقة لها بالدين وأركانه. العقوبة لها ما بعدها لأنها ستفرض إعادة التفكير في ضرورة تحييد الشعائر المقدسة الثابتة وفصلها عن الأزمات السياسية العابرة وإن احتدت.
إن قرار السلطات السعودية منع القطريين من الحج برا وجوّا عبر طيرانهم الخاص هو إجراء ظالم لا شك في ذلك والقصد منه الإهانة والتضييق لا أكثر. فكيف تسمح سلطات المملكة لعدوها اللدود كما تدعي من الحج عبر الناقل الوطني ممثلا في شركة الطيران الإيرانية وترفض ذلك لشعب عربي مسلم جار هو الشعب القطري؟ كيف يمكن أن نفهم هذا الإجراء الظالم خارج سياق الأزمة الخليجية باعتباره امتدادا لحصار قطر ومحاولة ضرب نظام الحكم فيها؟
الجواب أوضح من السؤال لكنه سؤال يدفع إلى تفعيل خلاصات أساسية تسمح بقراءة التطورات اللاحقة لتأزم الوضع العربي عامة وخاصة في المنطقة المشرقية منه:
أولى الخلاصات تتعلق بطبيعة الآليات التي تحكم الصراعات العربية البينية وأزمتها التي لا تنتهي وهي الأزمات التي عاد عبرها المستعمر القديم إلى أرض العرب مثلما حدث في غزو الكويت مثلا أو في الحرب التي يشنها النظام السوري ضد شعبه منذ أكثر من سبع سنوات. أي أن طبيعة الفعل السياسي والعسكري العربي في حال الأزمات هو الذي يسهّل غزو الأوطان وتدميرها واحتلالها مثلما حدث في العراق. النظام السياسي العربي الخالق للأزمات والمؤجج للصراعات هو اليوم أكبر خطر يهدد الأمن القومي العربي وليس الإرهاب ولا غيره من الذرائع التي ينشط الإعلام الرسمي في إيهام الناس بها.
استعملت الأنظمة العربية فيما بينها كل أنواع الوسائل المتاحة من أجل تصفية حساباتها السياسية والإساءة إلى خصومها تاريخيا وكان العمل العسكري المباشر هو أكثر الأسلحة خطورة من ناحية وأعمقها أثرا على المنطقة من ناحية أخرى. لا تكاد منطقة عربية واحدة تخلو من الأزمات التي يكون سببها النظام السياسي القائم دون غيره. فبين المغرب والجزائر توجد أطول حدود برية مغلقة في العالم وهي حدود تفصل بين آلاف العائلات التي تعيش الفصل الجغرافي الإجباري بسبب خصومات وأحقاد سياسية لا ناقة لها فيها ولا جمل. أما في المشرق فإن الخلافات والصراعات أكثر من أن تحصى أو أن تعدّ بين مختلف الأنظمة العربية طوال تاريخ عمر الدولة الإقليمية وريثة تقسيم سايكس بيكو.
لكنها المرة الأولى تقريبا التي يستعمل فيها سلاح الحج بين الدول الخليجية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي وبشكل مباشر تجاوز المنع من الحج إلى اعتقال الحجاج بتهم مختلفة على خلفية سياسية مثلما حدث مع حجاج قطريين وقبلهم مع حجاج ليبيين. وهو أمر يجعل من الشعيرة المقدسة مصيدة للأفراد لذرائع لا علاقة لها بأسباب زيارتهم للأماكن المقدسة. من جهة أخرى فإن وضع الحرمين كان ولا يزال مدار صراعات عديدة بين قوى إقليمية كثيرة وعلى رأسها إيران التي يحاول نظامها بخلفيته المذهبية الزج بالحرمين في سياق الصراع السياسي مع المملكة العربية السعودية. وليس مطلب تدويل الحرمين في الحقيقة إلا مطلبا سياسيا غير عربي في الأساس تساهم الأزمات السياسية وسوء تصرف الدولة المضيفة في مزيد حضوره على السطح.
إن خطورة إدراج الحج ضمن الأدوات السياسية للصراعات والخلافات الإقليمية إنما تكمن في قدرة بعض القوى المعادية للأمة من استغلاله لغايات سياسية توسعية وأبعاد مذهبية طائفية لا تخدم مصالح الأوطان ولا تضمن استقرارها السياسي. من الخطأ الجسيم إذن عدم تحييد الأماكن المقدسة والنأي بها عن كل الخلافات البينية مهما بلغت حدتها وذلك خدمة لاستقرار المملكة العربية السعودية أولا وقبل غيرها. وهو استقرار يساهم في تأمين الحزام الخليجي الذي تسرّب إليه التصدع خلال العقود الأخيرة ومنذ حرب الخليج بسب أخطاء سياسية كارثية.
رغم تعنت الموقف السعودي وتحلي الموقف القطري الرسمي بالصبر وضبط النفس أمام التجاوزات الكبيرة والمؤلمة في حق أهل قطر إلا أن تواصل هذا النسق التصعيدي سيكون وخيم العواقب على المنطقة كلّها وقد يتسبب في نتائج كارثية على المنطقة بشكل لن يستثني أحدا. إن قراءة عقلانية لمخاطر الانزلاق في الوضع الخليجي تستوجب اليوم وبشكل ملح ضرورة التعجيل بإيقاف النزيف الكبير الذي يعرفه النطاق الخليجي خارج إطار المواقف الذاتية والثارات الشخصية وردود الأفعال الانفعالية لما فيه مصلحة الجميع ومصلحة الأمة قبل كل شيء.
لن يكون هناك رابح وحيد من كل ما يجري ويتفاعل في المنطقة بل إن المتضرر الأكبر هي شعوب المنطقة التي تجد نفسها رهينة السياسات الرعناء لأنظمتها والتي تكلفها غاليا وعلى كل المستويات. إن أخطر الأمراض هي تلك التي تجعل الجسد يتآكل من الداخل بشكل لا يخدم إلا مصلحة المتربصين بهذه الأمة وما أكثرهم.