يحسب لرئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران أنه نجح، برفقة السيد نبيل بن عبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية (حزب شيوعي)، في نسج تحالف استراتيجي بين حزبين تباعد بينهم الأيديولوجيا؛ على عنوان النضال الديمقراطي من الموقع الحكومي.
لكن هذا التحالف الذي حرص بنكيران كل الحرص على رعايته وتأمين استمراره، بدأ في عهد رئيس الحكومة الدكتور سعد الدين العثماني يتصدع على إيقاع سوء تفاهم كبير بين الحزبين، بلغ الذروة بقرار الملك محمد السادس
بحذف كتابة الدولة في الماء من الهيكلة الحكومية، تلك الكتابة التي كانت تشغلها القيادية في المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية السيدة شرفات أفيلال.
بلاغ الديوان الملكي، الذي أسند القرار لاقتراح رئيس الحكومة، تجنب استعمال مصطلح الإقالة أو الإعفاء في حق القيادية التقدمية، وعلل قرار حذف كتابة الدولة بالرغبة في تحسين حكامة الورشات والمشاريع المتعلقة بالماء، والرفع من نجاعتها وفعاليتها، وتعزيز التناسق والتكامل بين مختلف الأجهزة والمؤسسات المعنية بالماء التابعة لوزارة التجهيز والنقل واللوجستيك.
حزب التقدم والاشتراكية، حسب تصريحات صحفية، رأى في سلوك رئيس الحكومة تجاوزا لميثاق الأغلبية، وانزياحا عن مقتضيات التحالف الاستراتيجي بين الحزبين، وتحدث الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية بأنه لم يُحط علما بالقرار ولم يتم التشاور معه في شأنه.
رواية رئيس الحكومة، التي تجنب الحزب الإعلان عنها لضرورات رعاية ما تبقى من التحالف، تعتبر أن القرار اتخذ بهذه الطريقة غير المحرجة، تأمينا للتحالف، ورغبة في حفظ ماء وجه القيادية التقدمية، وأن الأمر يتعلق باختلالات في
حكامة قطاع الماء، وأنها هي التي تسرعت في تدبير التوتر بينها وبين الوزير الوصي برفع الملف إلى وزير الداخلية ومستشار الملك السيد فؤاد عالي الهمة، وفرضت بذلك واقعا على الأرض، أضعف هامش مناورة رئيس الحكومة. إذ صار الملف بيد الملك. ولذلك، تجنبت الأمانة العامة لحزب
العدالة والتنمية الرد على بلاغ حليفها، وأكدت على حرصها على استمرار التحالف والتعاون بين الحزبين لدعم المسار الديمقراطي بالبلد، ودعت لعقد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب، ربما لوضع برلمان الحزب في الصورة، وامتصاص الغضب الذي ثار بشأن طريقة إقالة قيادية التقدم والاشتراكية، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من تفكيك التحالف، وخدمة أهداف خصوم التجربة الديمقراطية في عزل العدالة والتنمية وإضعافه.
حزب التقدم والاشتراكية أصدر بدوره بلاغا حادا، حرص فيه على التنويه بأداء قيادته في كتابة الدولة في الماء، وتوجيه نقد صريح لرئيس الحكومة بخصوص سلوكه السياسي، وعلاقته بميثاق الأغلبية، ومقتضيات التحالف الاستراتيجي بين الحزبين، دون أن ينسى تذكير حليفه بالثمن الذي دفعه من جراء تحالفه مع العدالة والتنمية، والضربات التي تلقاها تباعا بسبب ذلك، داعيا رئيس الحكومة إلى أن يوضح للرأي العام حيثيات القرار، كما أعطى لنفسه مساحة زمنية تمكنه من تقييم الموقف، وعرض جميع تفاصيله وحيثياته بين يدي برلمان الحزب (لجنته المركزية) ليتخذ القرار النهائي بهذا الشأن.
التفاعلات الجارية لحد الآن، تؤشر على أن الطريق إلى القطيعة بين الحزبين بدأت تتسارع، ومساحات اللاثقة تكبر، وأن نظرة قيادات الحزبين لبعضها البعض لم تعد كما كانت في السابق.
قيادات التقدم والاشتراكية، ترى أن سلوك
رئيس الحكومة سعد الدين العثماني تؤشر على أنه يريد التخفف من ثقل هذا التحالف، وأن ما يجبره على الإعلان عن استمراره، هو الإرث الذي ورثه، والذي يجد كلفة في التحلل منه. ويستدلون على ذلك بتصريحات له سابقة، تنتقد أداء وزير الصحة التقدمي الحسين الوردي أمام شبيبة حزبه، ويستدلون أيضا بتصريحات مشابهة لقيادات وازنة في الحزب، كما يرون أن رئيس الحكومة، لم يقم بأي جهد يذكر في الدفاع عن وزراء الحزب الذين أقالهم الملك على خلفية عدم تنفيذ المشروع الملكي "الحسيمة منارة المتوسط"، وبشكل خاص الأمين العام السيد نبيل بن عبد الله، مع أن نسب إنجاز تعهداتهم في المشروع فاقت نسب وزراء آخرين لم يطلهم أي إعفاء أو لوم.
أما قيادات حزب العدالة والتنمية، فلا يتردد بعضهم في التعبير غير المعلن عن وهمية الصورة التي تسوق عن وزراء حليفهم الاستراتيجي في الحكومة، وأنهم لا يفترقون في شيء - إن لم يكونوا أسوأ - في ملفات تخص حكامة القطاعات التي يتولونها.
ثمة، إذن، صورتان متناقضتان ترسمان مستقبل التحالف، صورة المعلن، الذي يؤكد على ضرورة استمرار التحالف وعلاقة ذلك بتحصين المسار الديمقراطي، وصورة تمثل كل قيادة لحليفها في الجهة الأخرى، وما ترسب من سوء فهم بسبب الأحداث والوقائع المؤلمة التي حدثت (إقالات متتابعة لوزراء حزب التقدم والاشتراكية)، والإرادات التي تتربص بهذا التحالف الاستراتيجي، وتتصيد الفرص لتفكيكه.
حزب العدالة والتنمية مشدود لإرث يصعب عليه التحلل منه؛ لأنه سيضر بصورته الديمقراطية، ويجعل أي مراجعة له، انتحارا طوعيا واتجاها نحو العزلة السياسية. أما التقدم والاشتراكية، فإن حدة خطابه ونقده، وتلويح بعض قياداته بالخروج من الحكومة، لا يعدو أن يكون تدبيرا سياسيا لكسب الموقف السياسي والأخلاقي والإعلامي أيضا، وهو ما تحققت نسب معتبرة منه.
حتى الآن، السيناريوهات مفتوحة على ثلاث احتمالات:
أولها، التصعيد، وذلك إن لجأ حزب العدالة والتنمية، بشكل من الأشكال، إلى الرد على بلاغ حليفه، وكشف ملابسات حذف كتابة الدولة في الماء، وهو السيناريو الذي لم يلجأ إليه في بلاغه الرسمي، وإن كانت بعض التسريبات الإعلامية تعبر عنه، وفي هذه الحالة، فإن رد برلمان التقدم والاشتراكية المرتقب سيكون حادا، دون أن يصل لخيار الخروج من الحكومة.
وثانيها، خيار تهدئة التوتر من جهة العدالة والتنمية، وجبر الخاطر ومحاولة امتصاص غضب التقدم والاشتراكية بتقديم بعض الإشارات، وهو خيار ممكن، لكن نجاحه يتوقف على حجم هذه الإشارات، ودرجة فهمها والتقاطها من الطرفين.
وثالثها، اجترار التوتر ومحاولة تدبيره عند كل محطة، مع استمرار أجواء اللاثقة، وهو الخيار الذي يمكن أن يفضي إلى تعميق الخلاف بين الحزبين، وتسريع وتيرة القطيعة.
التقدير، أن برلمان حزب العدالة والتنمية المرتقب انعقاد دورته في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر، بما فيه من حيوية وتباين وجهات النظر، يمكن أن يكون أحد خيارات تبديد التوتر، ويمكن أن يكون لرئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران (باعتباره مهندس هذا التحالف الاستراتيجي، والحريص على استمراره) أن يكون له دور مؤثر في هذا المجلس، ولا يستبعد أن تطلب وساطته في هذا الاتجاه.