حملات اعتقال موسعة تطال أطياف ثورة الخامس والعشرين من يناير كافة، لتبدأ
مصر من جديد مرحلة اصطفاف إجباري توضع فيها البلاد في سلة واحدة في مواجهة النظام العسكري الانقلابي الحاكم. وبصرف النظر عمن أخطأ ومن تسبب ومن شارك ومن دعم، فقد أصبح لزاما على الجميع أن يعي المشهد مكتملا والصورة بكل أبعادها؛ لأن البديل هو السحق للجميع، وليس لطائفة أو فصيل أو جماعة. أصبح لزاما على الفرقاء أن يجلسوا مجبرين على طاولة واحدة، بعدما جمعهم العسكر في زنزانة واحدة؛فإما أن يتفقوا لينقذوا ما تبقى منهم، أو يختلفوا ليستقر الأمر في يد الآخر، ولينتظروا انفجارا شعبيا إذا أتي بغير قيادة واعية، فلسوف تذهب الفوضى بالبلاد أبعد مما يتصور أحد.
أدوات ثورية جيدة
لنجاح أي ثورة تغيير يلزمها محوران أساسيان:
المحور الأول: ممارسات النظام.
المحور الثاني: مجموعة الإجراءات والوسائل الموجهة لإسقاط النظام، التي يقوم بها الثوار.
وبالنسبة للمحور الأول في الحالة المصرية، يمارس النظام القمعي كل ما من شأنه دفع الشعب للانفجار داخليا، وتغيير وجهة النظر العالمية تجاه تجاوبها وسكوتها. بل ورضاها عنه حرصا على مصالحها، واللغة العالمية لا تعرف سوي المصالح، وما يوجه أي نظام لاتخاذ موقف تجاه نظام آخر، هو مكتسبات بلاده في تلك البلاد، وإذا استشعر الآخر أي خطر على مصالحه ما استمر في دعم الديكتاتور. وبناء على ذلك، فالخطوة الأولى لدى الشعوب لفرض هيمنتها، (خاصة في ظل المعطيات الجديدة للنظام العالمي الذي فرضه الصراع الدائر بين ترامب كشخص غير مؤهل لحكم القوة العظمى اقتصاديا وعسكريا كواقع مفروض، وهي أمريكا، وبين أردوغان كفكرة استطاعت أن تكسر قيد التبعية ولو جزئيا؛ فانتصرت مرحليا في حربها الاقتصادية المعلنة، ساعده (أردوغان) في ذلك المشكلات الداخلية التي تواجه الرئيس الأمريكي، ورغبة غربية في الخلاص من ذلك الأرعن ترامب، والفكاك من سطوة الدولار لفرض واقع اقتصادي جديد)؛ أن النظام العالمي الآن في ظل حالة الحصار الشديد التي يمر بها رعاة الانقلاب، مستعد للتعامل مع أي ثورة بجدية خاصة في ظل الاحتقان الحادث.
نار تحت الرماد
ففي فترة تتسم بالغضب المتنامي، الذي أخذ في التعبير عن ذاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدءا بحالة من الرفض الهامس جراء ممارسات النظام الوحشية والجريئة تجاه شعبه، يصر هذا النظام على غلق أبواب التغيير الممكنة كافة، التي قد تفتح باب أمل في وجه البسطاء الذين عجزوا عن العيش بسبب ممارسات النظام الاقتصادية، بغلق كل فرصة في وجه من يريد حياة كريمة، أو استكمال يومه دون الوقوع في براثن ومجاهل الفقر والحاجة. تمتد يد البطش لكل من تسول له نفسه بالمعارضة أو الانتقاد أو إيجاد بدائل للتعايش، وتتم حملة اعتقالات غير مسبوقة تذكرنا بتلك التي حدثت في أيلول/ سبتمبر من العام 1981، لتصير المعتقلات المصرية خليطا بين الإسلاميين والعسكريين والليبراليين وغيرهم، ويفقد النظام معظم مؤيديه ممن مثلوا أركانا قوية للانقلاب في بدايته، لتقف مصر أخيرا على أعتاب بركان قد لا يبقي ولا يذر.
الجميع وقع في فخ العسكر
وأما المحور الثاني، وهو الإجراءات الثورية التي يجب أن يتحصن خلفها الشعب ويوجهها مفكرو ومنظرو وقادة
الثورة، فللأسف الشديد الحالة لا تسر في البلاد، وكأن الثورة تسير بقدم واحدة: نظام يدمر، وثوار مشتتون متناحرون، يتهم أحدهم الآخر، بينما الجميع مدان بتسليم الثورة والانخداع بالعسكر والعجلة في حصد ثمار لم يكن قد تم غرسها بعد، وتمزقت أحلام البسطاء في أروقة النخبة كل منهم يتنصل مما وصل إليه الحال ملقيا بتبعته على الآخر، فبين الإخوان الذين دفعوا الثمن الفادح وما زالوا، وبين النخبة التي وقعت أخيرا في فخ الاعتقال والاتهام بالانتماء لجماعة محظورة، يقف الشعب منتظرا قيادة توجهه في أي اتجاه يسير.
ويقف العالم اليوم متابعا مصر التي تنتظر قائدا يأخذ بيدها لانتزاع حريتها، وقد تأهلت تماما لتلك اللحظة، بينما كل المؤشرات تؤكد أن الإجراءات كافة التي يتخذها النظام لا هدف لها إلا القضاء على تلك البلاد وانتزاعها من هويتها وتسليمها منزوعة الحضارة، في صفقات مشبوهة يتم فيها التنازل عن الجزر والأرض المصرية بغير ثمن. وبعد أربع سنوات، هي فترة حكم السيسي، ينتبه المواطن البسيط إلى مصائب لا يستطيع دفع ثمنها، لأنها ببساطة هي مستقبل أبنائه القريب والبعيد.
ولأن مصر جزء مهم من العالم الذي أصبح قرية واحدة، وقد تابعنا أزمة الليرة كيف حركت المشهد العالمي بأكمله، فالأمر لا يخص فقط الشعب المطحون، ولا يخص نخبتها، إنما نهضة مصر من كبوتها تؤثر في المنطقة كاملة، بل أستطيع أن أقول إن تحرير مصر من تلك الطغمة الغاشمة هو البداية لتحرير كل المقدسات، لتصير الثورة المصرية واجبة الحدوث والاستمرار، ويكون توحيد الكلمة فريضة وإصلاح الشأن الداخلي للثوار والتجاوز عما فات واجب الوقت، ولن يكون ذلك بتكوين لجان متابعة أو قرار من كيان، إنما بتحمل الشعب مسؤوليته تجاه ذاته، وبقيام المفكرين والإعلاميين الواعيين وأصحاب العقل والدين والحكمة بحملات توعية موسعة على القنوات الإعلامية المهدرة، لتحويل طاقة الغضب لدى الناس لمسار إيجابي موجه في إجراءات منظمة يقوم بها الداخل المصري وخارجه، على التوازي، فالداخل بإحياء الحراك، والخارج بتنظيم المؤتمرات والمسيرات، مع إحياء المسار الحقوقي والإعلامي بشكل مكثف في توقيت واحد، أيضا بدعوة عامة تتبناها إحدى الهيئات العالمية، ولتكن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، للتوفيق بين الثوار، ومن يعارض أو يرفض يستبعد تماما ويعلن للناس، والإجراءات التي يمكن أن تتم متعددة، شرط إرادة البدء بها.
العالم في انتظار مصر
وفي الوقت الذي ينتظر فيه المصريون القائد المخلص الذي يقود الجميع لثورة عارمة ويواجه النظام بجماهير غاضبة، يقف العالم منتظرا مصر ماذا هي فاعلة في ظل تلك الظروف الأليمة، التي لا تشبهها فترة تاريخية معروفة مع كل المعطيات التي تدفع الشعب دفعا للثورة وانتزاع حقه. لقد أصبح واجبا على الشعب المصري أن يدرك:
أولا: أن انتظار القائد الملهم لم يعد في صالحه، وأن سرعة الأحداث والممارسات الكارثية مخيف، فلم يعد هناك وقت للتأجيل في إطفاء حرائق الوطن.
ثانيا: أرى أن انتشار الوعي في المجتمع أفضل كثيرا من خمس سنوات مضت، وأن الشعب أصبح مؤهلا ومدفوعا لموجة ثورية جديدة في ظل حالة وعي وخبرة ثورية قد تقيه من الوقوع مرة أخرى في أخطاء الموجة الأولى، فلا انخداع بالعسكر مرة أخرى، ولا وقوع في فخ الفرقة من جديد.
ثالثا: لقد أدركت النخبة الثورية ولو نظريا، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، أن الشعب إن لم يكن مساندا لأي حراك، فهو حراك محكوم عليه بالفشل، فلن تستطيع فئة وحدها مهما بلغت قوة تنظيمها أن تنفرد بتحرير البلاد، أو تنوب عن الشعب في مهمته في انتزاع حريته.
رابعا: يجب على الشعب أن يدرك أن الثورات يمكنها أن تصنع القادة، وأن الحراك مدرسة يتعلم فيها الجميع بعد أن احتكرت الأنظمة المتوالية ممارسة السياسة على ذاتها، وأوقعت الشعب بكل فئاته في الجهل السياسي، فضلا عن الجهل في العلوم الأخرى. إن حتمية ظهور القائد الذي يتحدث باسم الثورة أكيدة بعد تلك الدروس التي تلقاها الشعب على يد نظام أتى ليهدم لا ليبني، ويفسد لا ليقضي على الفساد، فهل يعي الشعب ويبدأ في التحرك قبل أن ينهكه الجوع والمرض فلا يستطيع حراكا؟ ظني أنه قادر على فعلها، والأيام المقبلة ستسفر عن نتائج قد تدهشنا جميعا.