كلما قابلني زملاء أتراك يضحكون على لغتي وأبادلهم، لكنهم يقسمون بأغلظ الأيمان أن لغة الضاد من أصعب ما يمكن. ورغم أن الحكومة التركية تضع
تعليم العربية للأتراك على قمة أولوياتها الثقافية، وهناك - لا ريب - إرادة سياسية لتشجيع المستثمرين العرب إلى
تركيا، وتعزيز العلاقات مع الدول المصدرة للطاقة في الشرق الأوسط، والاستحواذ على حصة كبيرة من إيرادات السياحة
العربية في المنطقة، وفهم ثقافة الشعوب العربية، لا سيما مع تفاقم الحروب لدى دول الجوار (سوريا والعراق)، بما يشكل تهديدا أمنيا للجمهورية التركية، ناهيك على أن سكان محافظات الجوار التركية أجدادهم كانوا عربا، علاوة على الرغبة العارمة للشعب التركي المسلم في تعلمهم لدينه بلغته الأم.
رغم ذلك، فمعوقات تعليم العربية للأتراك متراكمة، وقد كان مرجوا (بعد هجرة العقول الأكاديمية العربية من بلادهم منذ خمسة أعوام) أن تحدث طفرة في طرائق تعلم لغة القرآن للترك، ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك.
فلا تزال مؤسسات الدولة التعليمية بتركيا (في مجال تعليم العربية) تعاني نقصا حادا في التصنيفات الحديثة والمؤلفات المعاصرة، والسلاسل المبتكرة في تعلم
اللغات الأخرى، ولا يستثنى في ذلك الكتاتيب ولا المدارس الرسمية أو غيرها، سواء في مراكز الديانة أو مدارس الأئمة والخطباء أو اللغة العربية بالجامعات التركية، وما إلى ذلك .
وآفة ذلك كله عائد في معظمه إلى المعلم وبعده عن غياب التفكير الإبداعي، واستخدام الفنون والوسائط المتعددة والألعاب اللغوية المباشرة والإلكترونية، ومسرحة المناهج والبرمجة الحاسوبية التي هي من بينات التعليم المعاصر وأدواته. كما أن هؤلاء الأكاديميين العرب الذين أتوا للأراضي التركية أغلبهم غير متخصص في عين المجال، بل قريب منه، فلا يميزون بين طرائق التعليم للناطقين بغير العربية، وبين طرق تعليم الناطقين بها، وشتان بينهما.
إن دور المعلم التقليدي الذي يلقن ويكرر ويزبد ويرغي لم يعد يصلح في زمن كهذا، زمن يعتد بالصورة ويعتصم بالفنون ويحتشد بالإيماء، فكيف يفلح نمط تقليدي في تعليم العربية للناطقين بها أو بغيرها؟
إن ما ينفع الناس هو المعلم الملهم المومئ المرشد، كالمايسترو الذي لا ينتظم الفريق إلا به. أو كالمسنة، وهي الآلة التي تجعل السكين حادا، بدون أن يقطع بنفسه.
لا تعطوا الترك ولا غيرهم من الأعاجم السمكة، بل علموهم كيف يصطادونها من كل بحر.
بدلا من عبثية مراكز التعليم التي يتكسب منها عرب، وفدوا على تركيا مع حدوث اضطرابات في بلادهم بهدف الربح من خلال جمعيات يتم تسجيلها شكليا في تركيا، وشهاداتها في الغالب غير معترف بها، وهي على كل حال لا تسمن من جوع أو تغني، بل تتضارب فيها المناهج والمقررات التقليدية غالبا.
وبدلا من تعليم لغة الضاد بفصلها عن سياقها الثقافي والمعرفي، بصورة ببغاوية، إذ كيف يمكن دراسة لغة ما بدون معرفة عاداتها وتقاليدها ومنظومتها الإدراكية,
أضف لكل ذلك غياب حركة ترجمة ذات شأن من العربية إلى التركية ولا من التركية للعربية، ولا توجد دوريات جامعة للثقافتين تكون بمثابة جسر بينهما، كما تعمل دور النشر المحدودة بصورة منفصلة.
حينما يدرك المسؤولون الأتراك - وغيرهم من النافذين العرب والمهتمين بالمجال - أن دمج العنصر العربي في الفعاليات الثقافية التركية ليس رفاهية نخبوية، بل حاجة أمنية واقتصادية وحضارية بالنسبة للترك قبل العرب، وحينما ينحازون لذوي التفكير الإبداعي ولا يكتفون بالنمطيين من حملة الدكتوراة والأكاديميين المسنين، وحينما يفتحون بواباتهم للمراسم التركية والمؤتمرات ولدور السينما للمبدعين العرب، حين يدركون فسيعلمون وقتها أنهم وحدهم وحدهم المبدعون هم من يعلمون العربية للترك لا غيرهم. ألا يا آل عثمان اسمعوا.