لا يمكننا قياس حجم وتاريخ شخص مثل النبيل الصادق جمال خاشجقي بالتوازي مع هذا الأثر الهائل الذي نجم عن قتله.. كوكب الأرض كله يتساءل بكثير من الدهشة وبعض من الغضب.. كيف؟ ولماذا؟ ولعل الدنيا كلها الآن تسأل عن هذا المخزون الدفين من الكراهية والحقد، بل وكل ألوان الشر التي اجتمعت بكل هذا الحجم، وانصبت على رأس رجل يكتب ويتكلم لا أكثر.. ثم خرجت مجلجلة في هذا السيناريو بالغ التواضع وبالغ الشراسة وبالغ الخفة في آن واحد. وصدق من قال: يغيب العقل عن أهل العقل لينفذ القدر الذي لا يعلمه ويعلم أسراره إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى. وكثير من أحداث التاريخ الكبرى والصغرى ومجريات الحياة الخاصة والعامة يقف أمامها العقل البسيط دهشا متسائلا في إيمان وتفكر: لم كان ذلك كذلك ولم يكن غير ذلك؟ خذ مثلا، لما كان هذا الاجتراء من البكباشي على حرمة دم عالم وفقيه قانوني جليل مثل عبد القادر عودة (1906-1954)؟ والذي سيقف مظلوما قبل إعدامه شنقا داعيا الواحد القهار: اللهم اجعل دمي لعنة عليه وعلى من تبعه، ولتحل فعلا اللعنات تلو اللعنات. وسيسحبك ذلك أيضا إلى تساؤل آخر: لم كانت منه أيضا هذه اللهفة المريبة على إعدام كاتب ومفكر مثل سيد قطب (1906-1966)، وكان بإمكانه سجنه مثلا أو تحديد إقامته، وكان بالفعل لا زال خارجا من عشر سنوات سجنا، وليتحول بعدها سيد قطب إلى أيقونة في سماء الفكر الإسلامي المعاصر، يختلف ويتفق معه الكثير من التيارات الدينية لكن دماءه شقت مسارا طويلا سار فيه الكثير بفهم وبغير فهم؟ مات من مات ملعونا أو مبرورا، وعاش من عاش خسيئا أو هنيئا، ويستمر التاريخ في تسجيل خطايا البلهاء الذين لا يلبثوا إلا أن يذهبوا، وليأتي بعدهم الأكثر بلاهة ليتركبوا نفس الخطايا، وإن بأسلوب أسوأ وأشرس وأخس.
ذكرتنا فاجعة "النبيل خاشجقي" بحادثة اهتزت لها أوروبا كلها في القرن الــ19 عرفت بـ"قضية دريفوس" ولولا أنوار الضمير لدى بعض البشر الطيبين لاختفى دريفوس واختفت قضيته في دهاليز النسيان اللئيم. تقول الحكاية إن "الفريد دريفوس" كان ضابط مدفعية واعدا في الجيش الفرنسي، وألصق به رئيس المخابرات تهمة الخيانة وإفشاء أسرار عسكرية للملحق العسكري الألماني، في حين أن من كان يفعل تلك الخيانة باستمرار هو نائب رئيس المخابرات ومساعده. كان هذا عام 1894 تحديدا، وكانت المخابرات الفرنسية قد عثرت على أوراق في قمامة السفارة الألمانية فيها أسرار عسكرية وتشير إلى أن كاتبها من سلاح المدفعية. وبالفعل، قبض على دريفوس وتم تجريده من رتبته وسجنه في جزيرة الشيطان بأمريكا الجنوبية، بعد عامين جاء رئيس مخابرات جديد ووصلت إليه رسالة بنفس الطريقة القديمة لكن خطها مطابق للخط الذي أُدين به دريفوس رفع الرجل الموضوع إلى وزير الحربية الذي طلب منه التكتم على الموضوع لكن الرسالة وصلت بطريقة أو بأخرى إلى الصحافة التي نشرتها، وفورا طلبت زوجته إعادة محاكمة زوجها. وفي الوقت نفسه، أحس رئيس المخابرات الأمين أن هناك محاولة لقتله، فذهب مع محاميه إلى مجلس الشيوخ ووزير الحربية ورئيس الوزراء، فلم يهتموا جميعا. وما أن جاء العام 1897 حتى بدأت الصحف تتناول الموضوع على نطاق واسع، فما كان من الجميع إلا تلفيق قضية لرئيس المخابرات الأمين الذي سجن بالفعل. وهنا تقدم الكاتب الكبير إميل زولا (1840-1902) وكتب مقالا ستبلغه شهرته الآفاق بعنوان "إني أتهم"، ولتدخل هذه العبارة في أدبيات السياسة والجدل العام من أوسع الأبواب. واتهم زولا وزير الحربية بالتستر على المجرمين الحقيقيين، لكن الوزير كابر واستكبر وطالب بمحاكمة زولا وسجنه سنة مع الشغل، لكن الملحق العسكري الألماني يهتز ضميره لكل هذا، فيعلن كل شيء، ويتم التحقيق مع نائب رئيس المخابرات (الخائن الأصلي)، والذي وجد بعد ذلك مقتولا في زنزانته دون أن يعرف أحد إلى الآن من قتله ولم قتله. ويضطر وزير الحربية وكبار القادة إلى الاستقالة، ويضطر رئيس الوزراء لإعادة النظر في القضية، وأعلنت براءة دريفوس، وعزّ على القضاة أن يطعنوا على هيبة الأحكام السابقة، وتم فقط تخفيف الحكم إلى عشر سنوات، ينفذ داخل فرنسا، مع رد رتبته العسكرية، فهاج الرأي العام بشدة، إذ وجد الناس أنفسهم أمام بريء يظلم ظلما عنيدا أمام أعينهم، فليس هناك تهمة بالأساس. وبالفعل، يصدر رئيس الجمهورية "إيميل لوبيه" قرارا بإطلاق سراحه، وسيسعى بعدها دريفوس عامين كاملين لإعادة محاكمته، وليتم له ذلك وتتشكل محكمة من كبار رجال الجيش والقانون. ليس هذا فقط، بل ويأمر النائب العام بنظر القضية أمام كل دوائر محكمة النقض مجتمعة، والتي أصدرت حكما قاطعا في 12 تموز/ يوليو 1906 ببراءة دريفوس وأحقيته في التعويض. وتتقدم الحكومة خطوة للأمام أيضا، فتمنح دريفوس وسام الشرف (أعلى تكريم رسمي)، وأقيم احتفال مهيب في الجيش يرد لدريفوس رتبته العسكرية واعتباره الأدبي والوطني. ولم يعش إميل زولا ليرى هذا اليوم الذي كان دوره الأبرز فيه أحد أهم أسباب الاهتمام الواسع به. سيكون هاما هنا أن نتذكر أن العلامة رشيد رضا كتب عن هذا الموضوع في مجلة المنار، أيضا أورده عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الأشهر طبائع الاستبداد. دريفوس كان يهوديا، لكن يهوديته لم تكن سببا فيما تعرض له. كانت أوروبا وفرنسا تحديدا قد تجاوزتا تلك العنصرية، خاصة بعد خطاب نابليون الشهير لهم عام 1799 "أيها الأمة الفريدة..".
يقولون إنه ما أتفه "الشخص" في قضية دريفوس قياسا إلى تلك الهزة العنيفة التي اجتاحت المجتمع الفرنسى وأوروبا كلها، لكنه الضمير الإنساني الذي يصفه الدكتور كامل حسين في روايته الوحيدة "قرية ظالمة"؛ بأنه "قبس من نور الله، ولا يكون للناس من هدى بغيره، فكل فضيلة تنقلب نقصا، وكل خير يصبح شرا، وكل عقل يصبح خبالا ما لم يكن للناس من ضمير هادٍ".
مات جمال خاشجقي وكلنا سنموت، واحتاج قاتلوه 18 يوما ليعلنوا موته، وهو ما يدعو إلى الشفقة الممزوجة بالسخرية مما قيل ومما سيقال، لكن هذه "الموتة الكريمة" ما كانت إلا لتبقيه رمزا حيا لكل ما يعلي من شأن الإنسان وكرامة الإنسان على هذه الأرض.