العام الرابع على مشارف الانتهاء والحرب في
اليمن لا تزال قائمة دون أفق لهذه
الحرب المجنونة التي تاهت عن بوصلتها المعلنة منذ البداية وهي إسقاط الانقلاب واستعادة الشرعية المنقلب عليها من قبل تجمع مليشيوي طائفي مدعوم إيرانيا، هذه الحرب التي تسبب طول أمدها وسياسة القائمين عليها، في تقوية الانقلاب وإضعاف الشرعية.
المراقب لسير هذه الحرب، يدرك جيدا أي أهداف تقف خلف مثل هذه الحرب، تلك الأهداف غير المعلنة والحقيقية، التي نراها اليوم ماثلة أمامنا، من عدم الحسم النهائي للحرب، مرورا بالفوضى، ووصولا حتى دويلات المليشيات التي أنشأها التحالف في المناطق المحررة وخاصة في جنوب اليمن والساحل الغربي، كل هذه المؤشرات هي الدليل الكافي على نوعية الأجندات التي قام من أجلها التحالف العربي أو في أحسن الأحوال، جُرَّت إليها المملكة العربية
السعودية التي فقدت القدرة على إدارة التحالف بفعل أزماتها الداخلية.
كثير من التعقيدات والتحولات التي ظهرت على مسرح الأحداث السياسية في الحالة اليمنية، لم تكن تعقيدات طبيعية، بقدر ما كانت تعقيدات مصطنعة، عملت أطراف في التحالف على تغذيتها وتشجيعها لتبرز وتكبر كتناقضات توهموا، قدرتهم على السيطرة عليها وإدارتها، وإذا بها كل يوم تتحول إلى عقبات في وجه المملكة العربية السعودية تحديدا، كراعية ومؤسسة وقائدة للتحالف الذي تحولت في ظل ارتباك سياساتها، إلى طرف ثانوي بعد الإمارات في التحكم والسيطرة بتناقضات المشهد التي لا يمكن التنبؤ بمآلاتها النهائية حتى اللحظة.
فجردة حساب لهذا الحرب بالتأكيد ستكون ليست في صالح المشروع المعلن منها وهو استعادة الشرعية وإسقاط الانقلاب وإنما إضعاف الشرعية وتقوية الانقلاب الذي سقط في أول لحظة من وقوعه، ولولا التحالف وسياساته أنه اندثر في أشهره الأولى، ولكن تمكنت سياسة التحالف من الإبقاء على الانقلاب وإدارة معركة توازنات عسكرية وسياسية ساعدت الانقلاب للبقاء والحفاظ على قواته وأدواته والصمود لأربع سنوات رغم الهزيمة التي مُني بها.
تناقضات وتعقيدات
فمن القضايا التي لا يعيها البعض، وهي من تعقيدات المشهد اليمني، هو أن هذه الحرب من أعقد حروب التاريخ ربما، ففيها يجتمع الثورة والثورة المضادة في خندق واحد الآن، فمثلما مولت هذه الحرب من قبل ما يعرف بالتحالف العربي، ودوله هي التي دفعت بجماعة الحوثي بداية، للانقلاب على ثورة 11 فبراير، للقضاء على حملة ثورة فبراير وقوى الربيع الديمقراطية كلها وفي مقدمتهم حزب تجمع الإصلاح باعتباره امتدادا للإسلام السياسي، وخروج جماعة الحوثي على الاتفاق بعد وصولها، إلى العاصمة صنعاء، فهي في الوقت نفسه، حرب الثورة المضادة على أحد أدواتها ممثلا بجماعة الحوثي، وحربها أيضاً على قوى الثورة في ذات الوقت.
مثل هذه التعقيدات هي التي جعلت الحرب في اليمن تأخذ وقتا أطول مما كان يخطط لها، بالنظر إلى أن رغبة القائمين عليها اصطدمت بواقع أكثر تعقيدا مما تخيلوا، مما دفعهم إلى خيارات عدمية لن تكون نتائجها قطعا في صالحهم، بالنظر إلى أن الواقع الماثل أمامهم يفتقدون إلى أبسط قواعد التعاطي معه وعدم فهمهم لطبيعة المجتمع اليمني ورمال السياسة المتحركة فيه على الدوام.
ومع طول أمد هذه الحرب وعدم قدرة دول التحالف على حسمها بالكيفية التي يريدون، وهي الكيفية التي تضمن لهم عدم عودة قوى ثورة الربيع الديمقراطية مرة أخرى إلى مشهد ما بعد الحسم، كلما تعقدت هذه الحرب وظهرت تناقضاتها على المشهد باجندات متعارضة ومتناقضة أيضاً.
ومثل هذه النتائج هي التي تلجئ الطرفين على الاشتغال على تناقضاتها، بطريقة حتما ستقود إلى مواجهة بين طرفي التحالف الذي لم يعد منه سوى دولتين اثنتين، هما من تصدرتا مشهد دعم الثورات المضادة لثورات الربيع الديمقراطي، أي السعودية والإمارات.
بمعني آخر، ما ظهر على سطح المشهد حتى اليوم، هو اشتغال خارج المتفق عليه وخارج السياق الطبيعي للحرب، يعني أن هذه الحرب، ستأخذ مداها نحو تحولها إلى ردات فعل مزلزلة في وجه حلفاء إسقاط الانقلاب، وتحولهم بفعل سياساتهم إلى أشبه بقوى عدوان، كما تصفهم سلطة الأمر الواقع بصنعاء التي كانت إحدى أدواتهم للقضاء على الثورة اليمنية وحواملها في البداية.
لكن الملمح الأكثر بروزا اليوم، إنكشاف التحالف وأجنداته المتناقضة، بين طرفيه وبينه وبين الشرعية عدا عن تناقض أجنداته مع الخيار الشعبي الوطني اليمني العام، وهو ما نراه في بدء تململ اليمنيين في المناطق المحررة أو بالأصح في المناطق التي لم يصل إليها الانقلاب مطلقا، كسقطرى والمهرة اللتين تقودان رفضا شعبيا عارما و واضحا لتواجد التحالف في مناطقها دون أي مبرر لوجوده وتقتربان من توصيف هذا التواجد بالاحتلال الواجب مقاومته.
البعد الغائب
إن كان ثمة من بُعد غائب في هذه الحرب، فهو البعد الأكثر حسما لها، وهو البعد الاستراتيجي لها كأي حرب مصيرية ووجودية لمن يخوضها، أي أن استمرار الحرب بنفس هذه الآلية التي تجاوزت التكتيكية إلى العدمية والعبثية، والتي تقودها منذ لحظتها الأولى وحتى اللحظة الراهنة، بدون أي بعد استراتيجي لهو الخطر الكبير الذي يهدد ليس وجود اليمن كدولة فحسب بل يهدد النظام السياسي الحاكم لمنطقة الجزيرة العربية كلها دون استثناء.
فالعبثية التي تمضي نحوها وبها هذه الحرب، والتي تؤسس لنهاية أكثر عدمية للمعركة، بفعل السياسات العبثية التي ترتكز على تحرير الأرض تحت مظلة الشرعية المعترف بها وتسليمها لمليشيات لا تعترف بالشرعية المعترف بها والتي تخاض هذه الحرب باسمها وبغطائها، ما يؤسس لمشهد عبثي مفخخ بالمليشيات وسيناريو الاقتتال الفصائلي والقبائلي المقبل.
تأسيس المليشيات ومنحها غطاء الشرعية التي لا يعترفون بها، وتسليح هذه المليشيات التي لا عقيدة سياسية وأخلاقية لها، لا شك أنه سيناريو يؤسس للعنف والاقتتال، خاصة أن جزءا من هذه المليشيات تستند إلى عقيدة سلفية "تكفيرية" "مدخلية" لا تؤمن بالسياسة ولا بالنظام والقانون بقدر إيمانها بعقيدة الممول للحرب، وهي لا تخلف كثيرا بعقيدتها عن عقيدة مليشيات الحوثي التكفيرية للسياسة والسياسيين الذين لا يؤمنون بمعتقداتها ومسلماتها.
إن مثل هذا العبث بالمشهد اليمني، لا يؤذن بخير قادم، من وراء مثل هذه السياسات، التي لن تقتصر تداعياتها على المشهد اليمني فحسب وإنما على المنطقة كلها، لأنها سياسة ترتكز على عدمية انتقامية تسعى لتفتيت الجغرافيا اليمنية وتفخيخها بجماعات العنف والإرهاب، التي لا تؤمن بالحدود الجغرافية ولا بقواعد السياسة والعلاقات الدولية، وهي جماعات عنف عابر للحدود وبلا مشروع سياسي واضح المعالم مما يسهل توظيفها في إي إتجاه كان حسب رغبة من يمولها ويقدر على السيطرة على مخازن التفكير والتوجهات الحاكمة لهذه المليشيات شديدة التعقيد في ولائها وتقلبها السياسي.
مستقبل الحرب
من خلال تتبع هذه الحرب وتداعياتها وتعقيداتها ومؤشراتها، يدرك المتتبع جيدا، أنها حرب طال أمدها دون أن تحسم شيئا، بل والأخطر أنها لم تسقط الانقلاب المنهزم ولم تستعد الشرعية المنتصرة، وهذا من أكثر المشاهد عبثية في تاريخ أي حرب عرفها التاريخ، ومن ثم فأي مستقبل لحرب هكذا تمضي نحو اللاحسم النهائي وبأي شكل من الأشكال سياسيا أو عسكريا.
فلا مستقبل آمن لمنطقة تدار فيها حرب بهذه الطريقة، سوى أنها حرب عبثية، لا بداية لها ولا نهاية، وإن انتهت فإن انتهاءها ليس سوى محطة لحروب مستقبلية طويلة وأكثر تعقيدا ودموية مما هي حاليا، والأخطر أنها حرب لن تقف عند حدود الجغرافيا اليمنية، وإنما ستتطاير شضايها إلى ما خارج الحدود اليمنية وخاصة باتجاه المملكة وعمان وآمن البحر الأحمر وخليج عدن، الذي سيصبح مأسور للفوضى الأمنية والاقتتال في الداخل اليمني.
أكبر الخاسرين من عبثية هذه الحرب هي المملكة العربية السعودية، باعتبارها هي صاحبة الحرب ومن وقفت خلفها منذ لحظتها الأولى، عدا عن أن الهدف الأكبر في قلب هذه الحرب هو تفكيك المملكة واستهداف نظامها السياسي، والذي ربطت هذه الحرب مستقبله بمستقبل الحرب في اليمن سلما وحربا وهزيمة وانتصارا، وبتالي بمصير نظامها الجمهوري وسلامة مشروعها الاتحادي.
المستفيد الأكبر من استمرار عبثية هذه الحرب أيضاً، هي إيران، وحلفاؤها الذين خدمتهم هذه العبثية وطول أمد الحرب في ترتيب صفوفهم، وساعدتهم على الصمود والبقاء رغم ما منيوا به من هزيمة كان يفترض أن تصب في سياق إنهاء الانقلاب وليس الحفاظ عليه، لكن لأن القائمين على الحرب ليس من أهدافهم القضاء على الإنقلاب وإنما القضاء على القوى السياسية التي قامت بثورة 11 فبراير وتؤمن بالانتقال السياسي الديمقراطي في لليمن.
مراجعة مطلوبة
ولا مخرج من إنقاذ اليمن والمنطقة من عبثية هذه الحرب سوى بإعادة تقييم السعودية لدورها وسياساتها في هذه الحرب، وتجنب استمرار عبثيتها من خلال الدور المكشوف للإمارات في هذه الحرب، والتي عملت على عرقلة عودة الشرعية وتفخيخ المشهد اليمني بالمليشيات المسلحة والسعي بوضوح نحو تفتيت الجغرافيا اليمنية ودفعها نحو الإقتتال الأهلي، وكل هذا لا يخدم سوى المشروع الإيراني، الساعي لضرب السعودية وتفكيكها من خلال اليمن والسيطرة عليها والتحكم بها، فالدور الإماراتي كله يصب في صالح إيران، مهما ادعت الإمارات وأعلنت عداءها لإيران، لكن على أرض الواقع كل ما تقوم به الإمارات هو في صالح إيران ومليشياتها ومشروعها في اليمن والمنطقة كلها.
وحده مشروع تمكين الشرعية اليمنية ودعم سيطرتها على الأرض واستعادة مؤسساتها، والتعاطي معها كشريك استراتيجي في هذه الحرب، هو الطريق والمخرج الوحيد لتفادي النهايات الكارثية التي تنتظر المنطقة برمتها في حال مضت الأمور على ما هي عليه اليوم في اليمن.
المشروع الأكثر نجاة لليمن والخليج كله اليوم هو عودة شرعيته والحفاظ على نظامه الجمهوري ووحدته الاتحادية، وغير هذا لن يكون مصير المنطقة سوى بحر من الدماء والفوضى والاقتتال والسقوط الحتمي للمنظومة السياسية الحاكمة لدول المنطقة وتشظي الجغرافيا المفخخة بكل أشكال المكونات المذهبية القبائلية التي ستطفوا على المشهد في حال سقط وتلاشى شكل الدولة الموجودة راهنا، ولن يحل محلها سوى مليشيات تتحفز لملئ فراغ السقوط لهذه الأنظمة التي تتحين إيران ومشروعها لهذه اللحظة بفارغ الصبر والاستعداد.