اضطراب خط السياسة
السعودية وتناقضاته على الدوام؛ ولد نوعا من الضبابية في فهم حرب السعودية في
اليمن. فمن ناحية، يرى الرأي العام الغربي، بخاصة مجموعات
حقوق الإنسان، أن الحرب في اليمن هي حرب الجيران الأغنياء على بلد فقير تتناوشه الأزمات والفوضى وجماعات العنف، وأن جزءا من المأساة اليمنية سببها جيران اليمن الذين يعاملونه بنوع من الاستعلاء والقطيعة، ويعتبرونه مجرد حديقة خلفية للسعودية التي تحرص على الدوام على الإبقاء عليه ضعيفا ومرتهنا وتابعا لها.
لدى النخب الغربية خلفية تاريخية واضحة عن دعم السعودية للملكيين إبان الثورة على الإمامة وإعلان النظام الجمهوري، وهناك العديد من الدراسات الغربية التي صدرت بهذا الشأن، ولذلك يستعصي على دوائر صناعة القرار تصديق أن
الحوثيين عدو تاريخي للسعودية، وتقتصر المشكلة في نظرهم على علاقة الحوثيين المفترضة بإيران، وهو الأمر الذي تحاول السعودية جاهدة إثباته، من خلال البحث عن أدلة للدعم الايراني للحوثيين، من بينها الحديث عن تهريب سلاح وعرض بقايا مقذوفات وصواريخ بالستية حوثية، لكن تأثير هذا الجهد محدود للغاية. وقد كنت التقيت مسؤولة إحدى المنظمات الدولية؛ اعتبرت الحديث عن علاقة الحوثيين بإيران هراء. وبالتالي، يرى الكثير من الباحثين والسياسيين الغربيين أن الحرب السعودية في اليمن هي حرب على اليمن وليس على الحوثيين.
السجل القاتم لحقوق الإنسان في السعودية، وكذا
الإمارات، ألقى بظلاله على المسألة اليمنية، وبدت حرب السعودية والإمارات كأنها امتداد لسلوك البلدين المستهتر بحقوق الإنسان. عزز من هذه النظرة السلبية استهتار السعودية والإمارات بأرواح المدنيين واستهداف تجمعاتهم، بخاصة صالات العزاء والأفراح وتجمعات الأطفال، ناهيك عن شبكات السجون السرية الإماراتية وفظائع التعذيب التي كشف عنها النقاب في عدة تقارير حقوقية دولية، ولذلك شاهدنا تصاعد وتيرة الأصوات المطالبة لدول لديها صفقات تسليح للسعودية والإمارات؛ بإلغاء أو تعليق الصفقات، بسبب استخدامها ضد المدنيين في اليمن.
عمدت السعودية والإمارات إلى خداع الشرعية والشعب اليمني؛ من خلال العمل على بناء كيانات سياسية وعسكرية موازية للدولة لا تخضع للشرعية التي جاءت الرياض وأبو ظبي لدعمها، بل صارت هذه الكيانات التي لا تقل تمردا عن مليشيات الحوثي؛ تناصب الشرعية العداء وتعلن التمرد عنها وعن قراراتها.
في السياق أيضا، أخفقت السعودية والإمارات في خلق نماذج ناجحة للسلطة الشرعية في المناطق المحررة، بل تحولت هذه المناطق إلى مسرح للاغتيالات والفوضى، وبدأت التقارير الأممية تتحدث عن دور الإمارات والكيانات العسكرية التابعة لها كمقوض للحكومة الشرعية وتلاشي الدولة.
من الواضح، إذن، أن ارتباك السعودية والإمارات، وإخفاقاتهما عسكريا وسياسيا تحت تأثير فوبيا الربيع العربي، ومحاولاتهما المضي قدما في مسار الثورة المضادة رغم كارثيتها، واستمرار الانتهاكات وهدر الحقوق في مناطق الشرعية.. كل ذلك دفع المجتمع الدولي إلى التعامل مع مليشيا الحوثي كسلطة أمر واقع، واعتبارها لا تختلف عن مليشيات الإمارات في الجنوب، ومحاولة الإبقاء عليها كجزء من أي عملية سياسية أو تسوية مرتقبة.
هذه الأسباب وغيرها ساعدت مليشيات الحوثي، ومن ورائها بعض القوى الدولية، على استثمار المأساة اليمنية سياسيا، والضغط باتجاه حلول ترقيعية مجزأة تبقي على المليشيات عسكريا، وتساعدها على توطين مشروعها الطائفي العنصري في مناطق سيطرتها ذات الكثافة السكانية، ومنع أي تقدم عسكري للجيش الوطني.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أدى صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المعروف بتبعيته لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، إلى ارتهان القرار السعودي لإمارة أبو ظبي، ما أدى إلى خلق حالة من الارتباك في السياسة السعودية.. البداية من إعلان الحرب الإعلامية والاقتصادية على قطر، تمهيدا لاجتياح عسكري، لولا تدخل بعض القوى الإقليمية والدولية التي حالت دون إشعال فتيل حرب في أكثر مناطق العالم حيوية.
خسارة السعودية لدولة ذات تأثير إعلامي وسياسي واقتصادي مثل قطر، وإعلان طردها من تحالف دعم الشرعية في اليمن وكيل الاتهامات لها، أدى إلى إقحام الملف اليمني في أتون هذا الصراع الناشئ، وتراجع مستوى الدعم القطري للشعب اليمني في مواجهة الانقلاب، خصوصا بعد أن تم الضغط السعودي الإماراتي على الحكومة الشرعية المقيمة في الرياض لإعلان مقاطعتها الدوحة، التي كانت تتكفل برواتب السلك الدبلوماسي اليمني شهريا، إلى جانب العديد من جوانب الدعم الإغاثي والصحي.
لم يقف الأمر على أزمة قطر، فقد أدت تبعية القرار السعودي لأبو ظبي إلى إثارة فزع عدد من جيران المملكة، وبدأت بقية دول مجلس التعاون تستشعر خطر تعرضها لنفس السيناريو ضد قطر. ومن هنا، تشير الاتهامات إلى احتمال تحول سلطنة عمان إلى خط إمداد لوجستي وسياسي لمليشيات الحوثيين، ولذلك تشهد محافظة المهرة الحدودية مع السلطنة حاليا سباق نفوذ بين السعودية وسلطنة عمان، وهناك بوادر أزمة بين البلدين، على ما يبدو، على خلفية إرسال قوات سعودية للسيطرة على المنافذ الجوية والبرية للمحافظة التي لم تطأها أقدام المليشيات الحوثية.
أما على المستوى المحلي، فقد أدت الغارات السعودية الإماراتية على المدنيين باستمرار إلى خلق حالة من الاستياء الواسع في صفوف المواطنين اليمنيين؛ استثمرتها مليشيات الحوثي على نحو ناجح في عمليات التحشيد والاستقطاب والتجنيد في معركتها المفتوحة ضد الشرعية اليمنية، والدعاية الحوثية المكثفة ضد العمليات العسكرية لدعم الشرعية؛ باعتبارها حربا على اليمن كل اليمن ومقدراته وشعبه وبنيته التحتية.
إن إطالة أمد الحرب بحثا عن حلفاء تابعين مدجنين للإمارات ومشروعها التوسعي والقمعي، تحت تأثير فوبيا الربيع العربي، منح المليشيات الحوثية فرصة كافية من الوقت لعملية توطين مشروعها الطائفي العنصري، من خلال تجريف واسع للوظيفة العامة في الدولة وإجراء تعيينات سلالية واسعة جدا في كل مفاصل الدولة، وتدشين دورات تثقيفية لكل موظفي الدولة والوجهاء وعقال الحارات، ومحاولات طمس الهوية اليمنية، وتغيير ديمغرافي في صنعاء وغيرها، من خلال الاستثمارات الحوثية في قطاع العقارات ونهب أراض أولى وتوزيعها على عناصر السلالة الحوثية، وإعادة بناء طبقة من رجال المال والأعمال الحوثيين الدخلاء على قطاع المال والأعمال اليمني الذي يوشك أن يتلاشى تماما، وفرض واقع أحادي قمعي مختلف تماما عن اليمن الذي كان معروفا قبل 21 أيلول/ سبتمبر 2014.